أثار انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الكثير من ردود الفعل، فهو شخصية غير تقليدية بامتياز، ورغم كل الهجوم الذي واجهه من الإعلام الأمريكي قبل العالمي استطاع أن يثبت أن حوالي نصف الشعب الأمريكي (بما فيه من نساء) يراه رئيساً أفضل من هيلاري كلينتون. ما قيل عن ترامب قيل سابقاً على رونالد ريغان، وربما مع اختلاف الزمن لعدم وجود إعلام عالمي ووسائل تواصل اجتماعي في الثمانينات. فوز ترامب ليس صدمة للمحللين الجادين فقد كتب عدد غير قليل من فترة عن فكرة صعود الشعبوية (populism) في السياسة كاتجاه عام، وقد سبقت أوروبا الولايات المتحدة بذلك وإن كان لم ينجح أحد بنفس نجاح ترامب، ولعل أبلغ مثال هو النجاح النسبي للمثل الكوميدي الايطالي بيبي غريللو (Beppe Grillo)عام 2013 ووصوله لاعتباره مرشح حقيقي لمنصب رئيس الوزراء، وهو الممثل المعروف بتأديته لشخصية مهرج تلفزيوني (clown).

لقد كانت رسالة ترامب واضحة من اليوم الأول وهو أنه مرشح من خارج دائرة النخبة السياسية في العاصمة واشنطن، وفوزه هو تأكيد لما ذهب إليه بعض المحللين منذ مدة بأن هناك أزمة قيادة في العالم مع فقدان الشعوب لثقتها في قادتها ونخبها السياسية، ومن ثم باتت الشعوب تتطلع لشخصيات من خارج تلك النخب. هذا ما راهن عليه ترامب وحقق له النجاح. وهذا الاتجاه العام سوف يترسخ بشكل أكبر مع الوقت وسوف تتأثر كثير من الدول بما حدث في الولايات المتحدة فنشهد خلال العقد القادم صعودا لشخصيات من خارج النخب السياسية تتسيد دولها، وسيكون أغلبها ممثلاً لحركات شعبوية ويمينية بعضها متطرف كما في فرنسا وهولندا والدول الاسكندنافية.

ترامب وعلى قدر ما يوصم به من لدى الإعلام والرأي العام لديه خطاب متماسك ورؤية واضحة، وما يهم هو تحليلها ودراسة انعكاساتها علينا حيث أن المنطقة برمتها بصدد الدخول في مرحلة جديدة من العلاقة مع الولايات المتحدة. ومن المهم عدم تحميل بعض تصريحات أو مواقف ترامب بأوزان أكثر مما تحتمل، فكل مرشح رئاسي أمريكي يطلق شعاراته ومواقفه قبل انتخابه بغرض الكسب، وأوباما أكبر مثال حيث أن ما قاله قبل انتخابه كان من أجمل ما يكون ثم ما لبثت سياساته أن أضرت بالمنطقة بشكل كبير.

لقد كان لدى هيلاري كلينتون رؤية أوضح للسياسة الخارجية من ترامب، لكنها رؤية كانت تمثل امتدادا لسياسات أوباما الانعزالية والمترددة، في المقابل لم يقدم ترامب رؤية خارجية لكنه كان واضحاً في منطق خطابه المعتمد على التركيز على الاقتصاد الداخلي، مما يوحي بملامح سياسة حمائية اقتصادية (protectionism) وهي السياسية الأمريكية التي أطلقها الرئيس الأمريكي وليام ماكينلي بداية القرن الماضي وتبعها الرئيس ثيودور روزفلت وارتكزت على رفع الضرائب على الاستيراد لإنعاش الصناعة الأمريكية. هذا التوجه انعكس على سياسات ماكينلي وروزفلت الخارجية بالتدخل في عدة دول أبزرها الحرب الأمريكية-الإسبانية عام 1898، والتدخل في الفلبين ودعم استقلال البنميين عن كولمبيا بغية إنشاء قناة بنما. في كل هذه التحركات الأمريكية كان الموجه هو الدافع الاقتصادي الذي انعكس في سياسة خارجية أكثر تدخلاً. وليس من المستبعد أن ينحو ترامب نحو أسلوب مشابه يرتكز على جعل السياسة الخارجية رافداً لرؤيته الاقتصادية.

الانعكاس الأساس لهذه السياسة دولياً هو أنه في حال تمت سوف نشهد أفولاً لمسار العولمة المرتكز على انفتاح الدول اقتصاديا مع عودة الحمائية وتشكل التحالفات السياسية والعسكرية على غرار ما شهده العالم مع مطلع القرن العشرين وكان أحد أسباب نشوء الصراعات الاقتصادية التي قادت بدورها لاشتعال الحرب العالمية الأولى. لكن من جهة أخرى سوف تخلق هذه السياسة حالة جديدة على المسرح العالمي تتمثل في وضع معايير جديدة للعلاقات بعيداً عن المثالية السياسية (idealism) التي طبعت منهج عمل الإدارات الأمريكية السابقة. بغض النظر عن لغة ترامب الهجومية تجاه الحلفاء الأمريكيين مثل اليابان كوريا ودول الخليج التي يرى فيها أهمية قيامهم بدفع أموال نظير دفاع الولايات المتحدة عنهم بحسب تعبيره، فإن منطق سياسته الخارجية يتبدى هنا في كونه يحاول رسم معيار مادي للعلاقة يصبح معها التحالف مسألة نفعية في الاتجاهين، وهي ليست مسألة أموال فقط وإنما مسألة كشف حساب يريد منه أن يكون للولايات المتحدة مكسب ملموس من علاقاتها الخارجية.

ضمن هذه الرؤية سوف تصبح الصين بلا منازع العدو الأمريكي الواضح، وقد تشهد مدة ترامب بداية حرب باردة جديدة حقيقية، ومن هنا يتضح توجه ترامب الانفتاحي نحو روسيا، فهو يضع تركيزه على محاولة كبح جماح الصعود الصيني وهو ما لا يتأتى إلا بتحييد روسيا، وإن كان على حساب التخلي عن أوروبا قليلاً. إن واقع اللعبة الدولية يضعنا للأسف في مرحلة متأخرة من الأولويات الاستراتيجية الأمريكية وإن كانت مشكلات المنطقة تفرض نفسها، فإدارة أوباما تعايشت مع الوضع في سورية على مدى خمس سنوات ولن يجد ترامب نفسه مدفوعاً للتدخل في معضلات المنطقة سواء الجديدة كسورية واليمن أو القديمة كفلسطين إلا بحدود ضيقة كحالة تنظيم داعش. وسوف يكون التحدي الحقيقي هو أن تقوم دول المنطقة وعلى الأخص الخليج بإعادة تعريف مشكلات المنطقة لتتسق مع المنطق الأمريكي الجديد، فصراعنا مع إيران يجب أن يتسق مع رؤية ترامب للصين، وهذا مكمن تحد كبير كون أغلب نفطنا اليوم يتم تصديره للصين.

إن خريطة العالم التي سينظر لها ترامب ستكون خريطة مغايرة للتي نظر إليها الرؤساء السابقون، فهو سيرى حدوداً صلبة بين الدول ويصنفها طبقاً لمنطق التحالف الصلب وسيخلق عالماً أكثر قطبية، وهذا التوجه رغم خطورته السياسية قد يعيد الولايات المتحدة لصدارة العالم بلا منازع ويجعلها أقوى مما كانت، لكن الدول الأخرى التي تأقلمت مع طبيعة العولمة السائلة ستجد أنفسها في رهان صعب مع ولايات متحدة لا يعلم أحد إذا كانت ستخرج من مغامرتها الترامبية أقوى أم أضعف. وفي المقابل يبدو ترامب مزمعاً على وضع كشف حساب واضح لعلاقاته مع الدول. هذا التحد يوجب على عواصم الخليج أن تبدأ النظر فيه بجدية، فالمرحلة الترامبية القادمة مرحلة جديدة تستلزم أن نخلق خطاباً مغايراً لعلاقتنا مع الولايات المتحدة مغاير للخطاب الذي تسيد على مدى 80 عاماً.إن قناعات ترامب الاجتماعية شأن أمريكي داخلي وما يهم هو قناعاته في السياسية الخارجية التي يتضح أنها أكثر قرباً من المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، ترامب يرى ان الولايات المتحدة مثل شركة بحاجة لإعادة هيكلة لإطلاق طاقاتها، مع ما يحتاجه هذا الأمر من القيام بضرب المنافسين واحتكار السوق والتلاعب حتى بالقوانين. ترامب أثار الكثير من الضوضاء حوله خلال الفترة الماضية، لكن خلف تلك الضوضاء تكمن رؤية سياسية لا يجب التعامل مع صاحبها على أنه ساذج كما يوحي البعض، فقد أثبت أنه عكس ذلك تماماً.