قرأت بالأمس للأخ الدكتور، أستاذ تحليل الاقتصاد، عبدالله بن ربيعان هذه الجملة: التخطيط للتنمية لا يكون على الأوراق بل على خريطة الوطن. تذكرت على الفور كل صناديق الدعم والإقراض الحكومي بمسمياتها المختلفة وعلى رأسها درة التاج في صندوق التنمية الصناعي الذي يبدو وكأنه لا يعرف من خارطة هذا الوطن سوى نقاط ثلاث على كل هذه الخريطة. وبودي أن يجادلني هذا الصندوق العزيز بالبراهين، وسأتبرع لسدنة القرار العالي في هذا الصندوق بإحضار خريطة وطن عملاق ثم ننزل على هذه الخريطة حركة توزيع القروض الصناعية. سيظهر لهم جلياً وواضحاً أنهم أصحاب ابتكار وسبق في تصميم خريطة وطن غير التي ندرسها في حصص الجغرافيا، وأنهم أضافوا لهذه الخريطة ثلاثة أرباع خالية أحدها "الربع الخالي" الذي لم يعد لوحده في كل خرائط الدعم والإقراض لهذه الصناديق المختلفة. سيكتشف هذا الصندوق الصناعي الذي ضخ مليارات الدعم من قبل أن سبع مناطق في الشمال والجنوب لم تحظ من أرقامه المليارية سوى بأقل من 6 %، وسيكتشف أيضاً هذا الصندوق أنه ساهم في تشويه مدننا الرئيسية الغالية الثلاث وتدمير بناها التحتية وخلخلة نسيجها الاجتماعي بتركيز الإقراض على آلاف المنشآت الصناعية التي لا يستلزم إضافتها على أعباء هذه المدن المنهكة في الأصل. كان يمكن لقروض كل هذه الصناديق أن ترسم خارطة وطن عادلة ومتوازنة لو أنها ربطت شروط الدعم والإقراض بالأفكار الصناعية التي تذهب إلى الأماكن البكر الخالية، ومن ثم تسهيل القوانين والاشتراطات ضماناً لفتح أسواق الإنتاج والوظيفة والعمل على كل أركان هذه الخريطة. لماذا إذاً نفتح ما لا يقل عن عشرين كلية للهندسة في شتى المناطق والمدن إذا ما كنا نعرف مسبقاً أن المستقبل الوظيفي غير متوفر إلا في نقاط كثافة هيكلنا الصناعي الضيق على وجه هذه الخريطة؟

وهنا سأضرب مثال التوزيع الخططي من الخريطة الأميركية رغم تهمة الهوس بكل ما هو أميركي. تحتاج على تلك الخريطة إلى ست ساعات طيران للانتقال بين زوايا الخريطة الأربع. في أقصى الشمال الغربي ولدت صناعة الطيران وحولها نهض عملاق "ميكروسوفت" بوظائف مباشرة أو غير مباشرة في القطاعين تتسع لمليوني خانة. في أقصى الجنوب الشرقي تتركز صناعة السياحة في فلوريدا لأكثر من مئة مليون زائر في العام. في كاليفورنيا، وفي الجنوب الغربي قامت صناعة الترفيه والأفلام، وحول هذا النشاط ولدت كاليفورنيا ووحدها تمثل خمس اقتصاد هذا العالم. في الشمال الشرقي نشأت صناعة الجامعات و"بيزنس" العلم والاقتصاد المعرفي حيث بها لوحدها ما يقرب من نصف الفائزين بجائزة نوبل في العلوم والطب والاقتصاد. في وسط الخريطة الأميركية بالضبط تنهض الصناعة العسكرية بكل أشكالها المختلفة من الطائرة إلى الدبابة وبالتحديد في ولاية "ميزوري"، وهنا أختم بالتأكيد على أن لدينا كل مقومات التخطيط التنموي المتوازن، ولدينا خلفه اقتصاد قوي وقادر على خلق هذه الأفكار، وكل ما نحتاجه ليس إلا تطويع القوانين والاشتراطات في الرؤية الصناعية السعودية الجديدة. لكن هذا لن يحدث في وجود قوى الضغط و"لوبي" الاحتكار بكل ما بينهم وبكل شجاعة سأكتبها: من أصحاب المصالح والمنافع مع رسم كل قرار صناعي ما بين القطاعين العام والخاص. هؤلاء، وكما أشار الدكتور الربيعان بعاليه يكتبون هذا الوطن على الأوراق لا على الخريطة.