كنت، وما زلت، من المؤمنين بأهمية التأمين الطبي، الداعين إلى تطبيقه، فضلا عن أنني إبان وجودي على رأس العمل في وزارة الصحة قطعت شوطا طويلا في سبيل تعميم مشروع وطني للتأمين الصحي تمتد مظلته على الجميع، مواطنين ومقيمين على حد سواء، وكانت ثمرة الجهد الكبير الذي بذلته أنا والإخوة فريق وزارة الصحة أننا تمكنا من التأمين على 9 ملايين مقيم في زمن قياسي قدره نحو سنتين ونصف السنة. كان سباقا كبيرا مع الزمن قررنا خوضه لإيماننا بعوائد الفكرة العظيمة على الوطن والمواطن كما سنوضح بالأرقام بعد قليل، لكن قبل أن أترك هذه الجزئية لا يسعني أبدا أن أتطرق لهذا المشروع الحلم الذي قطعنا مسافة كبيرة في سبيل الوصول إليه، ولم يسعفنا الوقت لاستكماله، من دون أن أسجل في المقام الأول الدعم الذي لقيناه آنذاك من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ومباركته للمشروع -رحمه الله-، أيضا من باب إرجاع الفضل إلى أهله، ينبغي الإشارة إلى أنني حين تسنمت العمل في الوزارة وجدت قرار المشروع موجودا في مكتبي بجهود معالي الدكتور أسامة شبكشي الذي سبقني إلى منصب وزير الصحة، فتحمست كثيرا له، ووجدت أن من واجبي ألا أحرم بلادي مثل هذا المشروع الرائد.

ومع أنه كانت هناك عقبات كبرى واجهتنا، إلا أننا بعون الله استطعنا بعد فترة وجيزة تكوين مجلس الضمان الصحي، ووضع خطة عاجلة للمضي قدما في تحقيق هذا الحلم، حتى تمكنا من التأمين على المقيمين، وكنا نعتزم البدء مباشرة بالتأمين على المواطنين، ووجدنا أن نحو 4 ملايين مواطن مؤمن عليهم بالفعل، إما من قبل جهات عملهم التي ينتسبون إليها في القطاع الخاص، أو من تلقاء أنفسهم. ولقد وجدنا حين هممنا بالتأمين على المواطنين أن هذا سيكون المرحلة السهلة من المهمة الصعبة السابقة التي خضناها من الصفر؛ لأسباب يطول شرحها، لكن الوقت لم يمهلنا لاستكمال ما بدأناه، وكنت أتمنى لو أن مشروع التأمين اكتمل بالتأمين على جميع المواطنين، لَكُنّا الآن في شأن آخر؛ لما له من فوائد عظيمة، ولما كان سيؤمنه لبلادنا من جودة في الخدمات الطبية ما من شك في أن المواطن كان سيلمسها على نحو كبير، فضلا عما كان سيوفره للدولة من مليارات، وما كان سيوفره من طاقة وزارة الصحة لتوجيهها إلى أشياء أكثر نفعا من بناء المزيد من المستشفيات وصيانتها وإدارتها.

فعلى صعيد ما سيوفره المشروع على الدولة من مليارات، يعلم أهل الاختصاص والاقتصاديون أن الإنفاق على الفرد أقل بكثير من الإنفاق على المنشأة الصحية، إذ إن الإنفاق على المنشأة يكبد ميزانية الدولة الكثير بين بناء المؤسسة، وصيانتها، وإدارتها، وتلفياتها، وسرقاتها، وهذا وارد بالطبع، بعضه يظهر، وبعضه لا يظهر، وفي هذه الحالة يوفر الاعتماد على القطاع الخاص في تقديم العلاج للمواطن جميع هذه البنود، بالإضافة إلى ضمان جودة الخدمة في ظل أجواء التنافسية بين مؤسسات القطاع الخاص لاجتذاب أكبر شريحة من المحتاجين إلى الخدمات الطبية، فضلا عن تفرغ الوزارة أكثر لأداء دورها الرقابي، لضمان أعلى معدل أمان في الخدمات التي تقدمها هذه الجهات.

وقد يسأل سائل: وما مصير مستشفيات الدولة في هذه الحالة؟ والإجابة جد يسيرة، إذ بوسع الدولة أن تستفيد من هذه المستشفيات إما بتأجيرها أو ببيعها للقطاع الخاص (خصخصتها) وبهذا تسترد ما أنفقته عليها، مع ضمان تجويد الخدمة داخلها، وثَم عائد اقتصادي كبير يتركز في انتعاش سوق الاستثمار في المنشآت الصحية، الانتعاش الذي من شأنه ظهور العديد من المؤسسات الصحية الجديدة؛ ما يوفر عددا متناميا من الأسرّة للمواطنين، وفي الوقت نفسه يوفر فرص عمل جديدة في القطاع الصحي الذي سيتنامى كثيرا على التوازي مع قطاع التأمين الطبي الذي سيتنامى أيضا.

وبعملية حساب قديمة فالتأمين الطبي يوفر للدولة ما يتجاوز 40 مليار ريال سنويا؛ فعلى حسب علمي أن ميزانية وزارة الصحة وحدها حوالي 70 مليارا، هذا بخلاف ميزانية بقية المؤسسات الصحية التابعة لجهات أخرى حكومية، يبلغ عددها، على حسب علمي أيضا، 14 مؤسسة حكومية صحية كلها ينفق عليها من ميزانية الدولة، ومن المؤكد أن هذا لا يحدث في أي دولة أخرى، حسب اطلاعي على الشأن الصحي في كثير من دول العالم؛ وهذا استنزاف كبير لموارد الدولة. ولو افترضنا جدلا أن بقية المؤسسات الصحية الحكومية في الدولة يصرف لها نحو 50 مليارا، وهذا رقم متواضع، وحسب ما توصلنا إليه فلن تصل كلفة التأمين على المواطنين إلى 80 مليارا، تكون محصلة الإنفاق عليها مجتمعة 120 مليارا على أقل تقدير، بفارق 40 مليارا قيمة تكلفة التأمين الطبي على الموطنين في عام واحد، وبجودة أعلى توفرها التنافسية، والرقابة.

نحن في حاجة ماسة إلى المضي قدما في إكمال مشروع التأمين الصحي لتغطي مظلته جميع المواطنين، فلا يعقل أن تواصل الدولة صرف هذه المليارات من ميزانياتها، والمحصلة خدمة

طبية لا تكون جيدة أحيانا، وذلك لأن وزارة الصحة هي من يقدم الخدمة، وهي أيضا من يراقب الخدمة، وفصل تقديم الخدمات عن الرقابة في قناعتي هو السبيل الأمثل لتجويد الخدمة الطبية، ولا سبيل إلى هذا إلا بتطبيق التأمين الطبي الشامل على الجميع. وهو المشروع القائم الذي لن يستحدث من العدم، فقط كل ما يحتاج إليه أن يستكمل.