وضعت نصف مكعب من السكر في فنجان القهوة، وأخذت تحركه بشكل جنائزي، وهي تنظر حولها مشدوهة، كمن ترى المطار للمرة الأولى.

كانت رحلة "أروى" طويلة، وبدت جفونها متورمة، فاقترحت أن أحجز لها غرفة في فندق المطار إن كانت متعبة، فردت مستنكرة: "ومنذ متى ومطار الدمام به فندق". حدّثت معلوماتها بأن المطار أصبح به فندقان، وأربع صالات متوسطة إلى صغيرة، مخصصة للاستلقاء والاستراحة. تابعت حديثي بابتسامة مجاملة، ويبدو أنها لم تصدق.

أخذت رشفة أخيرة من القهوة، وفضّلت أن تذهب معي إلى المنزل. سحبنا الحقائب، وهبطنا للمواقف الأرضية، تلفتت حولها بانبهار غير مصدقة، ما وصل إليه مطار الملك فهد من تطور.

فتحتُ شنطة السيارة، ورفعت واحدة من حقائبها، ووضعتها فهرعت تعاتبني ألا أفعل فرفعت معي الأخرى. جلست وراء المقود، وسحبت حزام الأمان، وطلبت منها أن تفعل بالمثل.

في البداية اعتقدت بأننا سنتحدث إلى أن يأتي السائق، وحين أغلقت الباب وتحركت، فزعت وبصوت مذعور، طلبت أن أتوقف وأعود فورا للموقف إلى أن يأتي السائق.

توقفت عند المخرج، ووضعت بعض القطع النقدية، في عداد المواقف الإلكتروني، وحين فُتحت البوابة، انطلقت على الطريق السريع.

كانت "أروى" تنظر نحوي بخوف شديد، تطلب أن أعود وأكف عن المزاح، فأكثر شيء لا تتمناه أن تصطدم مع السلطات، كل ما تريده أن تنهي أعمالها، وتعود لأبنائها في أميركا، ثم أخذت تملأ السيارة والطريق بمخاوفها، فتركتها تعبر عن شعورها.

لمحتُ في المرآة سيارة تحاول التجاوز، فسحت الطريق، وأشرتُ إليها لتنظر، فكادت عيناها تخرجان من محجريهما، عندما رأت امرأة وراء المقود، وبجوارها شابة في مقتبل العمر.

في اللحظة نفسها مرت سيارة أخرى من الجهة اليمنى، فرأت امرأة أخرى بوضوح، وفي الخلف ثلاثة أطفال يلعبون بأجهزة في أيديهم، لم تصدق بأنهم كانوا يربطون حزام الأمان. وضعت يدها على رأسها وسألت: "هل هذا حقيقة"؟، أومأت برأسي، فظلت طوال الطريق تبحث عن السيارات التي تقودها نساء، وتؤشر كطفلة مبهورة، هذه واحدة، وتلك أخرى. وحين انعطفت لمخرج الخبر – الظهران، قالت فجأة، أليس غريبا، ألا نشعر بأية حفرة منذ أن خرجنا من المطار.

سحبت هاتفها الخلوي، وأخذت تصور الأبنية والمراكز، فصورت مركز الملك عبدالعزيز الثقافي، ومبنى المعهد العالي للموسيقى الشرقية، والأكاديمية السعودية للفنون الجميلة، والنادي النسائي الرياضي فرع الخبر، وعدة معالم أخرى كانت تصطف، في سيمفونية معمارية متناسقة، أطلقت تنهيده عميقة وقالت "تلك الأبنية كانت صحراء جرداء". أومأت برأسي وأردفت "كانت وأصبحت قرية تراثية متخصصة بتراث الشرقية، يقام فيها كل عام مهرجان يعزز تراث كل مدينة على الساحل الشرقي.

في صباح اليوم التالي خرجنا معا، أوصلت أبنائي إلى المدرسة، ثم توقفت على الطريق، عند جهاز الخدمة الذاتية للأحوال، لتجدد هويتها الوطنية، فاعترتها مشاعر مختلطة، لا تدري ماذا تفعل، فشرحت لها عندما تضع بصمتها، ستظهر معلوماتها للتحديث، يطلب الجهاز إدخال البطاقة القديمة، والاستعداد للتصوير، الجميل أن النظام يعطي المستخدم 3 فرص لإعادة التصوير، وحين يتم اختيار الصورة المناسبة، تخرج البطاقة بعد خمس دقائق تقريبا، وحين فعلت، خرجت بطاقتها، بتاريخ هذه السنة 2020 لتعلو وجهها ابتسامة رضا. فانتهزت الفرصة، واقترحت عليها، أن تصدر بطاقة عائلة تضم أبناءها، إن كانت تنوي تسجيلهم، أو فتح حساب بنكي لهم، فاعتقدت بأنني أبالغ، ولم تقتنع إلا حين عرضت لها ذلك الخيار على الشاشة.

في طريق العودة، كانت تنظر حولها بصمت، تحدق في السيدات يقدن سياراتهن، وكيف كانت بقية السيارات تمر بجوارهن، كأي شيء آخر، ثم بدأت تضحك بهستيرية، إلى أن أدمعت عينيها، وأردفت بأنها "لا تستطيع أن تنسى حكاية (المجتمع ليس مستعدا)، فلم أجادلها، لأنني أتفهم تماما، ظروف السنة التي هاجرت فيها زميلتي أروى.

ارتفعت نسبة حماسها، فلم أسمعها تتحدث بهذه السرعة من قبل، كانت تصف لي كل شيء على الطريق، وكأنني سائحة لا أسكن هنا.

فعرجت على حي العزيزية، لأُريها قطار الشرقية، وبدأت بسكة القطار الموازي لجسر البحرين، ثم انعطفت لأريها جزءا من الآخر، الذي يمر بالظهران والدمام والقطيف وسيهات وأبقيق ورأس تنورة، ويمتد إلى الجبيل والنعيرية لينتهي في محطة الخفجي، التي يخرج منها قطار آخر إلى الكويت.

في مساء اليوم نفسه، قررت اصطحابها لمشاهدة فيلم جديد لأحمد حلمي (على الرصيف) في سينما الكورنيش، فانتبهت إلى أن الطريق للكورنيش كان خاليا من الازدحام، وكادت تجزم بأن هذا أثر الاستغناء عن أغلب السائقين. ولكن الحقيقة، كانت هناك مباراة تجري بين النصر والهلال، فلم يكن فقط كورنيش الخبر خاليا، بل شوارع المملكة بأكملها.

قبل أن ندخل السينما، باغتتني بسؤالها: "وهل تم القضاء على الفساد"؟، فتعثرتُ وسقطت، وحين انتبهت شعرت بألم في رأسي. كانت أروى الجالسة جواري على الرصيف، تصرخ في الهاتف "يا صبر الأرض، من انتهى الدوام لنا ساعتين، ضاعت أعمارنا في الانتظار، كل ما نكلم السواق يقول: " قريب.. قريب".

ولم يأت للحظة كتابة هذه الأسطر!.