يتسع عقل الإنسان وإدراكه بالاسئلة، هذه الأسئلة تشبه تمارين الاستطالة التي لا يعود بعدها العقل أبدا إلى حجمه الذي كان عليه قبل السؤال.

أتساءل: ما لذي يمكن أن يحدث عندما نعطل ملكة التفكير عند أبنائنا أو طلابنا، بأن نتعامل معهم كأجهزة تسجيل مهمتها فقط ترديد ما تسمعه للحصول على رضانا أو على درجة الاتقان في مقرر ما؟ ما خطورة إغفال دور العقل في توظيف أو تحليل المعلومات المتلقّاة؟ ما نتيجة استخدام كمّ المعلومات وليس القدرة على توظيفها معيارا للتميز؟

هل يمكن أن يؤدي التحليل أو التخطيط غير السليم إلى نتائج سليمة؟ لماذا تقتصر اختباراتنا على المهارات الأقل كالحفظ والتذكر؟ ماذا عن مهارة التفكير؟ أو تفنيد الآراء؟ أو التفريق بين الرأي والحقيقة؟ ما الذي يخسره عقل الناشئ بحرمانه من حقه في التساؤل والمناقشة؟ ماذا عن تدريس النشء مبادئ الفلسفة؟

اسئلة كثيرة يجدر بالمهتمين بالتعليم التفكير فيها والإجابة عنها في أي مجتمع، فضلا عن مجتمع ثلثيه من الشباب في هذا العصر الذي يحاصرنا وإياهم بالأسئلة أينما توجهنا.

عام 2015، أكّد فريق بحثي في جامعة Durham البريطانية أهمية تعليم الفلسفة في المرحلة الابتدائية، إذ وجدوا أنها تؤدي إلى تحسين نتائج الطلاب في مهارات الرياضيات والقراءة والكتابة بشكل ملحوظ، وهو ما دعا الفريق البحثي إلى تقديم مقترح لاستمرار المشروع.

كان الهدف الأهم من تبني تدريس الفلسفة، هو مساعدة الأطفال على بناء الأسئلة، وتعزيز قدراتهم في التفكير المنطقي، والتعاون فيما بينهم لتحقيق أهداف المناقشة، لكن وجد الباحثون أن الطلاب المشاركين في البحث تحسنت قدراتهم الفكرية بشكل عام، وكان من اللافت أيضا وجود علاقة عكسية بين الخلفية الاقتصادية للطلاب وتحسن نتائجهم بعد تدريس الفلسفة، أي أن الطلاب من البيئات الأقل دخلا تحسن أداؤهم الدراسي في الرياضيات والمهارات اللغوية أكثر من زملائهم الأعلى دخلا.

لقد وجد الباحثون أن حصة الفلسفة التي لم تكلّف أكثر من 30 باوندا لكل تلميذ سنويا، رفعت أداء التلاميذ بشكل ملحوظ، يصل إلى ما يعادل شهرين من التعليم.

المشروع الذي نفذ في حوالي 3000 مدرسة في بريطانيا، قارن نتائج الطلاب قبل وبعد تدريس الفلسفة ومهارات التحليل والاستنتاج، وبناء عليه اقترح تقديم برنامج تدريبي للمعلمين لإتقان مهارات تدريس الفلسفة بغية تعميمها في المدارس.

يركّز المنهج المقدم للطلاب على مناقشة الأفكار الكبيرة والقيم والمفاهيم، ثم صياغة الأسئلة حولها مع استخدام المحفّز المناسب لتقوية الحجة ومقارعتها بالحجة.

فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام القصص أو المقاطع القصيرة لحث الأطفال على التفكير قبل منحهم فرصة المناقشة وصياغة الأسئلة حول المفهوم المقصود. كان الشرط الأهم هو التفكير الفردي الصامت أولا، ثم العمل بروح الفريق مع احترام حق الجميع في إبداء رأيهم و التعبير عنه، والاستماع لكل الآراء ثم مناقشتها بشكل منطقي.

بعد أن أنهى الفريق بحثه خرج بـ"أن هذه الدراسة التي امتدت عامين تحتاج إلى مزيد من التمحيص والتدقيق لتعميم نتائجها، لكن يمكن للفريق أن يؤكد عدم ملاحظته لأي أثر سلبي على الطلاب، كما أن تكلفة هذا التحسن منخفضة نسبيا.

أكد الفريق كذلك أن تشجيع الأطفال على مناقشة الأمور بشكل منطقي، أدى إلى ظهور وملاحظة جوانب أخرى لشخصياتهم، منها على سبيل المثال الصبر والثقة بالنفس وتقبل الآخرين".

وعودًا على بدء، إذا كان التأمل الواعي هو مفتاح المعرفة للإنسان، فإن أسئلته هي الإشارات على الطريق، وكلما زادت جودة أسئلته زادت فرصة حصوله على الإجابات.

وأنا أتساءل عن سبب عزوفنا عن تعليم مبادئ الفلسفة؟ ما الذي نخشاه؟

إن ديننا الجميل يدعو إلى التفكر، كما أن مصادر التشريع من القرآن والسنة مليئة بالأمثلة التي تشجّع على التفكير والتأمل ومقارعة الحجة بالحجة، وتراه طريقًا للاطمئنان. بل إن تعزيز الإيمان بالمعرفة والحجة يمنح الإنسان القدرة على الدفاع عن فكرته النبيلة، كما حدث لسيدنا إبراهيم مع النمرود في القصة الشهيرة.

لم يعد يكفي أن نمنح أبناءنا أو طلابنا الإجابات الجاهزة، بل الأمانة تقتضي أن نساعدهم ليطرحوا أسئلة ذكية، فهي السبيل الوحيد للوصول إلى إجابات ذكية، لأن دور التعليم هو مساعدة النشء على التفكير، وليس التفكير نيابة عنهم.