كان خبرا مبشرا بخير كثير، حين أعلنت أمانة منطقة الرياض، في بيان رسمي، أن النظام لا يمنع الترخيص للمرأة السعودية للعمل في مجال عربات الأطعمة المتنقلة "الفود ترك"، مبينا أن الاستثمار فيها متاح للجنسين.

هذا أمر مشكور ويستحق تقديرا كبيرا من الجميع، باعتباره مؤشرا على التعاطي المرن مع متطلبات النساء في سوق العمل الحر.

ولكن يظهر هنا أنه في الوقت الذي لا يسمح فيه للنساء بقيادة السيارة يسمح لهن بشكل تام وسهل ومرن بقيادة مطبخ متنقل وإدارته مع الكثير من التسهيلات الإدارية والإجرائية، مما يعني أن "العقل المجتمعي"، هو سلطة خفية اعتبارية سائدة، تتحكم بسلوك الأفراد وتصرفاتهم، من حيث لا يشعرون، في الغالب، وتتحكم بالتالي بتوجهاتهم أفرادا أو بالمجتمع ككل وبمسيرته الاقتصادية والتطورية والحضارية وتتكون بنية هذه السلطة من مزيج متفاعل ومتكامل لمنظومة واسعة من القيم والمعارف والمبادئ والمفاهيم والأعراف والأفكار والعقائد. إن هذا العقل تحديدا وبكل ما أنتجه من معطيات، هو ذاته الذي يتقبل بسلاسة تامة دخول النساء إلى سوق العمل من خلال "المطبخ المتنقل"، في الوقت ذاته هو العقل الذي يرفض تحت تأثير معطيات عديدة، دينية واجتماعية، أن تقود المرأة سيارتها لقضاء احتياجاتها أو إحضار أبنائها من المدرسة.

"الفود ترك" وهي مطاعم صغيرة متنقلة لا يمنع النظام من أن تديرها النساء ويعملن من خلالها، بل ووجدت قبولا لدى الأطراف كافة، مما يعني أن سلطة قيم العقل المجتمعي تنظر لها بفاعلية، وباعتبارها اختيارا حرا، ومن هنا كان القبول يسري على معظم أفراد المجتمع.

إن الدخول إلى العقل المجتمعي وسلطته القاهرة من خلال اعتبارات مألوفة ومقبولة لديه كأن يكن النساء مرحب بهن في سوق العمل، إن كنّ يعملن في المهام التي طبعت في ذهنية المجتمع عن دور المرأة في الحياة الخاصة والعامة فهي بكل تأكيد تبدو مقبولة ومرحب بها إذا ما كانت تقف أمام الموقد لصنع الخبز والكعك، ومقبولة تماما إذا كانت تعمل وهي تفترش الأرض في زاوية ما من أحد الأسواق، ومقبولة أيضا إذا ما كانت تحمل مكنسة لتنظيف مكان ما، مقبولة أيضا إذا كانت تنكفئ على عمل يدوي، كنسج الثياب أو تنظيف وتصليح أجهزة المحمول في الورش التقنية، لكنها مرفوضة وبشكل حاد إذا أرادت أن تكون خلف مقود سيارتها، إذ إن الصورة الذهنية ربطت السيارة وقيادتها بالذكورية، والتعدي على مساحة ليست لها، ولهذا ظلت تنطلق اللعنات التي صبت جام الغضب عليها ومحاربتها ووصمها بالعار في حال أرادت حقا كهذا،

إنها أشبه بغسل الدماغ الذي يمتثل له المجتمع بشكل لا شعوري. مما يؤكد لنا وبوضوح كبير مدى ضغط سلطة العقل المجتمعي، وقسوته على المرأة، وفرض بعض قيمه غير الملائمة والضارة، وبقدر كبير من السطحية والغموض الذي لا يمكن تبريره وتفسيره.

نخلص من كل ذلك إلى أن هناك الكثير من الحقوق التي لا تمرر ولا يتم قبولها من منطلق اعتبارات تكمن فقط في "العقل المجتمعي"، وتشكل جزءا مهما من محظوراته وطريقة عيشه ويومياته.