أعاد المستشار في مكتب وزير الدفاع، اللواء أحمد عسيري، تقديم وظيفة المتحدث العسكري بثوب جديد، تجاوز فيه الشكل النمطي القديم، المتمثل في الشخص الذي لا يجيد غير إنكار الحقائق ونفيها، وعدم الإصغاء إلى الطرف الآخر أو مناقشة أفكاره. ففي السابق كان المتحدث العسكري لمعظم جيوش العالم هو شخص مقطب الجبين، صارم القسمات، يتحدث بلهجة قطعية، ينفي الحقائق، وينكرها، ما دامت تتعارض مع ما يقوله هو، دون أن يكلف نفسه عناء إقناع الذين يتحدث إليهم ويستمعون إليه، ليس هذا فحسب، بل يتعامل مع ممثلي وسائل الإعلام بأسلوب عسكري صارم، دون أن يمنحهم الفرصة للاستدراك أو إعادة السؤال أو الاستفهام مما أشكل عليهم استيعابه.

في السابق كانت المؤتمرات الصحفية التي يعقدها المتحدثون العسكريون في أوقات الحروب في كثير من دول العالم مجرد فعاليات روتينية، لا تستقطب اهتمام وسائل الإعلام التي تبحث عن الحقائق المحضة، وتسعى وراءها، لأن من يتحدثون فيها لا يملك بعضهم المعلومة الكافية، أو لا يستطيع الإفصاح عن الحقائق وتبرير الوقائع، إما لضعف صلاحياتهم، أو لقلة اطلاعهم، أو لانعدام قدراتهم، لذلك كان غالبية الصحفيين يقاطعونها، ومن يضطرون إلى حضورها يكتفون بما يسمعونه من «تنوير» دون أن يطرحوا أسئلتهم، لكن هذا المفهوم القديم تغير في عهد ما بعد اندلاع عاصفة الحزم، حيث بات الصحفيون يتسابقون على حضور المؤتمرات الصحفية التي تعقدها قيادة التحالف العربي لدعم الشرعية، ويجدون في أنفسهم شجاعة كافية لطرح أسئلتهم والتعبير عن آرائهم، لأنهم وجدوا صنفا من التعامل الراقي لم يعهدوه من قبل، وباتوا لا يتخوفون من «الزجر والتأنيب» إذا ما فكروا في الحديث بصراحة، لأن من يقف أمامهم قادر ببساطة على الرد بصورة عملية، وتفنيد الشبهات، والرد على الاتهامات، لإيمانه بثبات موقفه وصحته، وتمكنه من الوسائل والأدوات التي تعينه على التعبير السليم، وإثبات تطابق موقفه مع مقتضيات القانون الدولي والمواثيق العالمية.

جاء عسيري بمفاهيم جديدة، تمثلت في الرجل القادر على التحدث بأكثر من لغة عالمية، فهو يجيد إلى جانب اللغة العربية الحديث بالإنجليزية والفرنسية، بطلاقة متناهية، وهذه الميزة تمكنه من إيضاح وجهة نظره بصورة أوضح، وإيصال الحقائق والصورة الفعلية إلى العالم الخارجي، دون الوقوع في فخ الترجمة الخاطئة أو القاصرة عن إيصال المعنى. واستطاع عسيري بتمكنه من ناصية اللغات العالمية الحية إبهار وسائل الإعلام الأجنبية التي تحدث إليها. كما أن أسلوب تعامله الراقي مع وسائل الإعلام، ومنح الصحفيين الفرصة الكافية لطرح أسئلتهم وشرح وجهات نظرهم، والرد عليهم بأناة وسعة أفق، وصبر جميل كان مثار تقدير من معظم الصحفيين. وكل ذلك أسهم في إيضاح رأي قيادة التحالف العربي، وجعل الجهود التي يقوم بها واضحة أمام من يريد النظر إلى الأمور بصورة منطقية.

في أحد المؤتمرات الصحفية التي عقدها اللواء عسيري في بدايات عاصفة الحزم، لفت الجميع أن مراسل وكالة الأنباء الفرنسية تقدم بسؤال عن سير العمليات وما يثار عن استهداف المدنيين، وبينما كان الجميع في انتظار أن يقوم المترجم بترجمة السؤال، بدأ عسيري في الرد بلغة فرنسية سليمة، فاجأت مراسل الوكالة نفسه قبل الحضور، واسترسل المتحدث الرسمي في الإجابة، بدون تلعثم أو اضطراب، حتى انتهى من شرح وجهة نظره، وكان جميع الحاضرين بين مصدق نفسه ومكذبها. ومعلوم أن القدرة على الرد بنفس لغة السائل، أوقع أثرا وأكثر قدرة على الإقناع، وهو ما حدث بالضبط للصحفي الذي لم يجد بدا من التأمين على كلمات عسيري، وإبداء إعجابه بتمكنه من اللغة الفرنسية بصورة مدهشة.

ولا تقتصر المواهب التي يمتلكها الرجل على شرح الحقائق العسكرية المحضة، والتحدث بلغتين عالميتين إضافة إلى العربية، فهو حاصل على بكالوريوس في تخصص التاريخ من جامعة السوربون، وبكالوريوس آخر في العلاقات الدولية من جامعة فرنسية أخرى، وهذه المزايا تجعله يمتلك إلى جانب معلوماته العسكرية، معلومات أخرى تتعلق بأمور السياسة. لذلك فإنه دائما ما يتحدث عن جوانب حقوقية، يتعرض فيها لقضايا حقوق الإنسان، والانتهاكات التي ترتكبها ميليشيات الحوثيين الانقلابية، وتجاوزاتها لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، وما تقترفه من مخالفات كبيرة. وكان تمكن عسيري من القضايا الحقوقية التي تحدث فيها مثار إعجاب كثير من مسؤولي المنظمات الدولية.

كل هذه العوامل جعلت الجهود التي يبذلها التحالف العربي في سبيل دعم الحكومة اليمنية، والتصدي لتجاوزات الانقلابيين الحوثيين وحليفهم المخلوع، تبدو أكثر وضوحا أمام الرأي العام العالمي، ووسائل الإعلام الغربية، لأنها تجد المعلومة المطلوبة، بأسلوب علمي رصين، ولغة سليمة، مدعومة بالوثائق والأدلة والبراهين.

إضافة إلى جهده الداخلي، فقد أدرك اللواء عسيري أن وسائل الإعلام في عصرنا الحالي لم تعد كما كانت عليه في السابق، ولا تقتصر على الصحف والمجلات والتلفزيونات الحكومية التي تتحدث بلسان واحد، بل إن عصر الانفجار الفضائي وثورة المعلومات، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج إلى أساليب حديثة، تتجاوز المؤتمرات الصحفية بصيغتها النمطية، وإن تمليك الحقيقة والمعلومة الصادقة للآخرين يقتضي ألا نجلس في أماكننا لننتظر أسئلتهم المتوقعة، بل تستلزم الانتقال إلى الآخرين في أماكنهم، ومخاطبتهم عن طريق إقامة الندوات والمؤتمرات العلمية، وهو ما يفعله في الوقت الحالي، حيث عقد سلسلة من اللقاءات الصحفية وأقام الندوات، وواجه وسائل الإعلام، في بريطانيا وفرنسا، وأجاب بذكاء شديد عن كثير من الأسئلة التي طرحت عليه، بطريقة أثارت إعجاب الحضور وجعلت من يريدون حصر الحقيقة في زاوية واحدة يحاولون الاعتداء عليه، وهو أسلوب عاجز، لا يمارسه إلا من فقد القدرة على مواجهة المنطق السليم.

هكذا تمضي المملكة في تفنيد الشبهات، والرد على الأقاويل، ودحض الافتراءات، مستعينة بعد الله سبحانه وتعالى بقدرات أبنائها الذين بذلت الجهد الكبير في تأهيلهم، وتمليكهم القدرات الكافية، التي تعينهم على أداء مهامهم، بطريقة علمية صحيحة، وعندما يقترن الحق بالقدرة على إظهاره فلن تستطيع أي قوة في الأرض أن تحجبه أو أن تقف في طريقه.