يميل كثير من الناس للاعتقاد بصحة كلام الأشخاص المتنفذين أو من يتقلدون مناصب عليا في العمل الحكومي أو الخاص أو أولئك الذي يعيشون في مستويات مادية واجتماعية عالية، وتصبح بعض أقوالهم وأحاديثهم مسلمات، خاصة إذا ما وافقت معتقدا أو يقينا أو أدلجة سابقة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة.

ربما قد نسي الكثير من المجتمع التصريح الذي أطلقته إحدى عضوات مجلس الشورى عبر صحيفة «الوطن»، قبل عدة أسابيع عن كون قيادة المرأة للسيارة في مجتمعنا لا تعدو كونها ترفا ليس له حاجة الآن، هم بلا شك نسوه، إما لأن ذلك الترف متاحٌ لهم دون قلق فقدانه؛ فإن كان رجلا فحتما سيارته لديه ولن يحمل هما، أيا كان، يستوقفه أو يمنعه أو يحاسبه على «ترف القيادة» التي قد يقضيها في ضرورة أو غير ضرورة، وإن كان سيدة من طبقة مخملية أو صاحبة أعمال وأموال فتعدد السيارات والسائقين الذين في خدمتها وبانتظارها أمام منزلها أو أمام مقر عملها لن يشكل لها هاجسا تخشى خسارته أو فقدانه. الأمر المؤكد أن هناك فئة في المجتمع لم تنس ذلك التصريح ولم تستطع تجاوزه أو على الأقل التصديق أن قيادة السيارة للمرأة ترف. وهذه الفئة هي الشريحة الأكبر في الاحتياج للقيادة والأكثر ضررا من المنع والأكثر صمتا وتقبلا للمنع غير المبرر، ولا التبريرات التي لا تعقل من عضو يمثل جنسها في مجلس يتوقع منه أن يكون صوتا لاحتياجات الطبقة المتوسطة والفقيرة والفئات الصامتة والكادحة، وأن لا يتبنى رأيا شخصيا باسم الجميع، مهما كان ينعم بالترف الوظيفي أو الاجتماعي.

المرأة التي تشارك الآن بعملها في كل مناحي الحياة، وتخرج له صباحا أو مساء أو في كلتا الفترتين، ومن تعول أسرتها وتشارك في بنائها؛ فتخرج لمستلزماتها اليومية واحتياجاتها الخاصة. المرأة الإنسان والتي لها نمط حياتها الذي تقضيه هذه الأيام هي لا تملك خيارا إن لم تكن محسوبة على الفئتين اللتين ذكرناهما في بداية المقال، لا تملك خيار تنقل إلا بسيارة خاصة لأحد أفراد أسرتها والذين غالبا ما يتملصون من هذه المسؤولية أو يقومون بها مع تململ وضيق أو مقابل، قد يكون المقابل شراء سيارة لأحد أخوتها أو أبنائها الذين يصغرونها بسنوات والذين يزج بهم في الشوارع مع سيارات حديثة في سني مراهقة وشباب مبكر فيكونون عرضة للحوادث وينشؤون دون أدنى مسؤولية لتوفر السيارة لديهم دون تعب مع امتنان ورجاء من سيدات المنزل لقضاء مشواريهن. أو قد تلجأ السيدة للاعتماد على السائقين المنتشرين في المدن في خدمات التوصيل الخاص أو بسيارات الأجرة العامة، علما أن بعض المدن لا تتوافر فيها سيارات أجرة ويكون «الكداد» الخاص هو البديل والذي يكون غالبا من جنسية شرق آسيوية أو إفريقية يعمل في عدة مهن ويتقاضى مبالغ عالية على التنقل داخل المدينة لا تملك السيدة إلا الرضوخ لها، لعدم وجود البديل من النقل العام أو المقدرة على التنقل مشيا في مدن لا تساعد على ذلك تنظيميا واجتماعيا. هؤلاء السائقون المنتشرون كالنار في الهشيم لخدمات التوصيل والذين يدخلون مبالغ هائلة من احتياجات النساء للتنقل لا تسلم السيدات والفتيات من سوء أخلاقهم أو تحرشهم اللفظي أو الجسدي أو بذاءة حديثهم وعدم نظافة وسلامة السيارات المستخدمة، فإن هي استغنت لم تجد بديلا، وإن اشتكت لم تجد قانونا يحميها من التحرش أو من إلقاء اللوم عليها ولم تجد ما يغنيها عن تلك الحاجة لهم.

يبقى الخيار الثالث الذي تعتمده كثير من النساء والأسر لدينا في ظل منع المرأة من قيادة السيارة وهو إحضار سائق خاص، وبلغة الأرقام عبر حسبة متوسطة للأسعار وسريعة للتكاليف المادية التي تتكبدها المرأة لتوفير سائق خاص فهي تحتاج ما لا يقل عن 40 ألف ريال قيمة السيارة، التأمين على السيارة بمعدل لا يقل عن 1500 ريال، رسوم استقدام السائق بنحو 5000 ريال، تأشيرة الاستقدام 2000 ريال، تكاليف الفحص الطبي واستخراج الإقامة عند وصول السائق بنحو 2000 ريال، توفير مقر لسكنه بإيجار لغرفة واحدة أو تجهيزها في المنزل بما لا يقل عن 1000 ريال في الشهر، راتب شهري بما لا يقل عن 1500 ريال، تدريب السائق واستخراج رخصة قيادة له بمتوسط 1000 ريال، إصلاحات السيارة (بنشر، زيت، صيانة، أعطال طارئة... إلخ،) بما لا يقل عن 5000 ريال في السنة؛ أي قد تدفع المرأة لتوفير سائق خاص لها قد تخرج معه في مشوار واحد فقط في اليوم ما يقارب 60 ألف ريال في السنة، غير الضرر المعنوي والنفسي في التعامل مع شخص غريب قد يسيء إليها ولأطفالها أو يقرر فجأة الإضراب أو المغادرة أو يتعمد الإساءة بإتلاف المركبة والتهور عند القيادة، وغيرها من المشاكل والشكاوى المرصودة من الأسر والنساء المضطرات إلى هذا النوع من «ترف القيادة».

ليس من المنطقي أن نقول إن على المرأة ملازمة المنزل لنخرج من هذا الجدل، كما أنه من الظلم والإجحاف أن تتساوى مع الرجل الموظف في الرواتب، دون أن يكون لها بدل نقل على قدر التكاليف الفعلية التي تتكبدها أو أن تعامل مثله في الحق في التنقل كمواطن يعمل ويبني ويساعد في نهضة الوطن وتحمل المسؤولية. بقية الأمور من المبررات التي تقال من حين لآخر ممن لا يحملون هم صباح اليوم التالي وكيفية الذهاب للعمل أو للمستشفى أو لقضاء الحاجة، فهي مكابرة على الواقع ورهنها برضا المجتمع أو كونه شأنا يحكم فيه هو نوع من سلب الحق من فرد ومنحه لآخر لا يتساوى معه في الفرص والإمكانات. وما دام شأنا مجتمعيا فلتتح الفرصة له عدة أشهر حتى ينظر قدرته على استيعاب أنه أمر طبيعي أو لا، أو ليكن البت فيه شأنا يفرض من المُشرّع كما فُرض قبل سنوات تعليم الفتاة.