يشدد كتاب «الفكر السياسي الإيراني» لمؤلفه سلطان النعيمي والصادر عن دار مدارك على أن الخميني فجر ثورته عام 1979 في إيران معتمدا على نظرية ولاية الفقيه حسب تقديمه لها، حيث جعل للفقيه مرتبة عليا تخرجه من النطاق البيروقراطي، وتمنحه صفة المشرف والضابط لتدابير السلطة، مستمداً ذلك من وجود تفويض من الإمام الغائب.

 




 


يواصل الدكتور سلطان محمد النعيمي البحث عن إجابات حول الفكر السياسي الإيراني وجذوره وتطوره في كتابه الصادر بهذا العنوان عن دار مدارك للنشر، فبعد أن تناول جذور هذا الفكر وتطوراته التاريخية، وصل به المطاف إلى مطلع الستينيات، حيث يبحث في هذا الفكر بين تلك الفترة والثورة الإيرانية 1979.


منذ مطلع الستينات حتى الثورة الإيرانية 1979

كان مطلع الستينات نقطة تحول في الفكر السياسي الشيعي الذي «شهد فيه الاتجاه الأصولي التحول من سلبية العزلة إلى النضال العملي لتحقيق الحكومة الإسلامية»، ولعل أهم الأسباب الكامنة وراء تحول المؤسسة الدينية، وبخاصة الاتجاه الأصولي، من سلبية عدم التدخل في الشؤون السياسية إلى المشاركة الفعالة في الحياة السياسية، وشهد الفكر السياسي الشيعي في هذه المرحلة ظهور ثلاثة اتجاهات في المؤسسة الدينية تناول كل اتجاه المسائل والإشكالات من منطلق ركائزه الفكرية وتأويلاته الخاصة؛ وهي كالآتي:

ـ الاتجاه الأول: نادى بعدم التدخل في العمل السياسي، ودعا إلى الاهتمام بالأمور المعنوية والدينية، ونادى باعتزال الفقهاء العمل السياسي وعدم التدخل في شؤون الدولة.

ـ الاتجاه الثاني: اتسم بالاعتدال، ولم يطالب بإسقاط النظام ولكن طالب بتفعيل دور العلماء في شؤون الدولة.

ـ الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الأصولي داخل المؤسسة الدينية وتزعمه آية الله الخميني وقاد الثورة الإيرانية ضد النظام البهلوي وانتهت بسقوط نظام الشاه عام 1979. واستطاع أن ينقل مفهوم ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية من الحيز النظري إلى العملي، وتوج بتأسيس الجمهورية الإسلامية.

يقسم محسن كديور تطور الفكر السياسي للخميني إلى أربع مراحل جاءت كالآتي:

1. الأولى: والتي استمرت حتى عام 1953، ويمكن تقصي ذلك الفكر من خلال كتاب كشف الأسرار الذي ألفه عام 1943، وجاء فكره مقاربا لفكر النائيني فيما يتعلق برقابة الفقيه على السلطة.

2. الثانية: وهي مرحلة الفقه الاستدلالي للخميني وظهرت في مؤلفات؛ مثل تحرير الوسيلة وكتاب البيع، وجاءت «نظرية ولاية الفقيه العامة المنصبة» محور الرؤى السياسية للخميني.

3. الثالثة: طرح الخميني في هذه الفترة مرة أخرى نظرية «الرقابة الفقهية» ومفهوم الجمهورية الإسلامية. وتجلت في الخطابات والرؤى المدونة للخميني في باريس من عام 1977 حتى أوائل 1979.

4. الرابعة: وهي العقد الأخير في حياة آية الله الخميني والذي طرح فيها ولاية الفقيه، خاصة منذ عام 1987 بوصفها «ولاية مطلقة».

 


أهمية السلطة وأسس شرعيتها عند الخميني

إن وجود سلطة تدير شؤون الشعب وتحفظ أمنه تعد من البديهيات في فكر الخميني، فالقوانين الإلهية -كما يرى الخميني- لا بد أن يرادفها في المجتمع وجود سلطة تنفيذية تتولى تنفيذ هذه القوانين وتطبيقها. أما فيما يتعلق بأسس شرعية السلطة فقد وجد الخميني أن الولاية والحكومة هما أمران خاصان بالله -عز وجل- اختص بهما الأنبياء ثم الأئمة من بعدهم لإقامة السلطة الإلهية على الأرض. وانطلاقا من أن الولاية العامة للفقهاء قد تم تعينها بنص من الأئمة المعصومين، وبناء على ذلك حصلت ولاية الفقيه على الشرعية الإلهية ذاتها التي كانت لأئمة أهل البيت.

 


التيارات الفكرية الحديثة

أدى اتصال إيران بالغرب طيلة العهد القاجاري إلى ظهور تيارات فكرية جديدة على الساحة الإيرانية. فإلى جانب التيار الديني ظهر تياران هما «التيار اليساري» و«التيار الليبرالي» اللذان أسهما بدورهما في نقل الفكر السياسي الإيراني إلى مجالات فكرية أرحب.

غذتها روافد فكرية أسهمت في ظهور مفاهيم وجدليات جديدة تناولها كل تيار من منطلق أيديولوجيته ومرتكزاته الفكرية.

1. التيار اليساري الإيراني

بدا الفكر اليساري بالظهور بصورة واضحة في إيران مع بداية القرن العشرين، فقد أدى اتصال الأقاليم الإيرانية المتاخمة لروسيا عن طريق التجارة أو عمل الإيرانيين فيها إلى تبني عدد منهم الأفكار اليسارية، من قبيل التوزيع العادل للثروة، وتحديد الملكية، وإلغاء الامتيازات الطبقية، وتأمين الحقوق الاجتماعية للطبقة العاملة. ولقد جاءت تلك المفاهيم بوصفها مقدمات لظهور جيل جديد تبنى تلك المفاهيم وسار نحو تأسيس أحزاب وجمعيات مثل «جمعية الهمة»و «حزب العدالة».

ولاحقا أسهمت التجارب العالمية، والحركات الثورية المسلحة في الجزائر وفيتنام وكوبا والصين في ظهور تنظيمات مسلحة في إيران، انبثقت من التنظيمات والأحزاب، سواء اليسارية أو الليبرالية الوطنية؛ وبعد عام 1963 انقسم اليسار الإيراني من حيث الخلفية السياسية إلى التنظيمات التالية:

• تنظيم فدائيي خلق الإيراني، وعرف باسم الفدائيين الماركسيين.

• منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، ويشار إليها باسم المجاهدين الإسلاميين.

• تنظيم ماركسي انبثق من مجاهدي خلق، وكان يعرف هذا التنظيم قبل ثورة 1979 باسم المجاهدين الماركسيين، وبعد الثورة عرف باسم التنظيم المناضل على طريق تحرير الطبقة العاملة ويعرف باسم «پيكار» أي المعركة.

• تنظيمات يسارية صغيرة اقتصر نشاطها غالبا على مدينة واحدة.

 


منذ ثورة 1979 وحتى 1989

بدأت مرحلة ما بعد ثورة عام 1979 حاملة معها أبعادا جديدة في الفكر السياسي الإيراني، فبعد سقوط النظام البهلوي انتفى سبب وحدة الأطياف والتيارات الثورية، والتي تناست تباين الرؤى الفكرية والأيديولوجية فيما بينها لتقف جميعها في سبيل تحقيق هدف واحد، ألا وهو سقوط النظام البهلوي.

وبعد سقوط النظام، بدأت الانقسامات والتباينات في الظهور على السطح داخل الجماعات الثورية وبدأت تتنافس على السلطة، واللجوء إلى النهج الإلغائي الإقصائي في تعاملها مع الجماعات السياسية الأخرى.

ومما لا شك فيه أن التيار الديني بقيادة آية الله الخميني لعب دورا أساسيا في الإطاحة بنظام الشاه. ولكن في المقابل، لا يمكن إنكار دور التيارين الآخرين في تلك الثورة.

 


الرؤى السياسية لمختلف التيارات الإيرانية بعد الثورة

بدأت التيارات السياسية في إيران بعد الثورة تضع أجندتها السياسية وتصورها للنظام القادم بعد انهيار النظام الملكي في إيران، مستعينة بقواعدها الفكرية وبنائها الأيديولوجي.

1. التيار الديني

يمكن تتبع الفكر السياسي لهذا التيار من خلال الرؤى الفكرية لآية الله الخميني بصفة خاصة إلى جانب بعض نخب التيار الديني التي أبدت تباينا في رؤاها حول تطبيق النظرية السياسية لولاية الفقيه، إلا أنها أجمعت على ضرورة إنهاء النظام الملكي في إيران وإحلاله بنظام جمهوري بديل عنه.

وبعد أن انتهى آية الله الخميني من تأكيد أهمية السلطة وضرورة وجود حكومة ونظام في عصر الغيبة تكون امتدادا لحكومة الرسول والإمام الغائب من بعده، انتقل ليطرح بعد ذلك شكل تلك الحكومة والصورة التي سيأتي عليها هذا النظام، وذلك لأن تشكيل الحكومة وتأسيس الجهاز التنفيذي والإداري، من وجهة نظر آية الله الخميني، جزء من «الولاية» مثلما أن النضال والسعي لتحقيق ذلك هو جزء من الاعتقاد بالولاية؛ ولذا فتشكيل الحكومة الإسلامية يعد من مستلزمات الاعتقاد بالولاية.

لقد كانت هناك علاقة جدلية بين تطور الفكر السياسي لآية الله الخميني، وتحديدا نظرية ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، وبين تطور الأحداث وتنامي قوة التيار الديني في مواجهة النظام. فقد سعى آية الله الخميني في البداية إلى إصلاح النظام الملكي عن طريق مطالبته بتفعيل دور العلماء كما جاء في دستور عام 1906، وبالتالي لم يكن في بداية الأمر مناهضا للنظام الملكي؛ ولكن مع تطور الأحداث لصالح التيار الديني، بدأ الخميني في الحديث عن نظام جديد غير النظام الملكي وهو «نظام الحكومة الإسلامية»، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على نظرته للنظام الملكي.

طوع الخميني نظام الجمهورية ليتماشى مع الأيديولوجية الإسلامية، فقرن النظام الجمهوري بالإسلام؛ وعارض من ينادي بفصل الدين عن السياسة؛ فـ«الإسلام دين السياسة، وعليه، فكل من يعتقد بأنه لا علاقة للدين بالسياسة فهو لم يفهم الدين الإسلامي ولم يعرف السياسة...إن الإسلام في حد ذاته دين سياسة وحكومة معا، والحكومة تعد من الأمور التنفيذية التي سُنت للحكم وإقامة العدل في المجتمع من خلال الأحكام الإسلامية».

 


ولاية الفقيه


أراد التيار الديني أن يكون للمذهب الشيعي دور أساسي في الدستور، وأن يستمد هذا الدستور وكافة المؤسسات الحكومية شرعيتها من ولاية الفقيه، لأن «للولي الفقيه كل ما كان لرسول الله والأئمة من بعده، ولا يلزم من ذلك أن تكون منزلتهم بمنزلة الأنبياء والأئمة، فالفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم فيه أحد. فالخلافة تأخذ منحيين، أحدهما «الإلهية التكوينية» وهي لخاصة الله من أوليائه كالأنبياء والمرسلين والأئمة، وثانيهما «المعنى الاعتباري الجعلي»، كجعل رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- خليفة أو انتخاب أحد ما للخلافة».

فليس هناك فرق، من وجهة نظر الخميني، بين حكومة الرسول والأئمة وبين حكومة الفقهاء.

لقد جاءت نظرية ولاية الفقيه، كما قدمها الخميني، لتجعل للفقيه مرتبة عليا لا تندرج في سلم المناصب الحكومية المتعارف عليها، بل يخرج الفقيه من النطاق البيروقراطي، ويأخذ صفة المشرف والضابط لتدابير السلطة، وهو ما ظهر واضحا بعد الثورة.

لقد استعان الخميني بنظرية ولاية الفقيه في سعيه لتبرير شرعية الحكومة الإسلامية، والتي لا يمكن أن تكون كذلك إلا بوجود تفويض من الإمام الغائب. لقد نقل الخميني الفكر السياسي الشيعي إلى أقصى ما يسعى إليه ليصل إلى تحقيق الحكومة الإسلامية بقيادة ولاية الفقيه، و«أصبحت ولاية الفقيه المطلقة عند الخميني، التي تنسخ ما قبلها من أطروحات سلطانية، ذروة الفكر السياسي الشيعي المعاصر. وهكذا يؤسس الخميني لموقع الفقيه كأعلى قمة في الهرم السياسي الذي يرقى إلى رتبة الإمام في عصر الغيبة».  لقد أصبحت هذه النظرية فيما بعد الإشكالية المحورية التي دارت حولها مختلف الرؤى والدراسات من داخل التيار الديني والتيارات الأخرى.

 


مجريات الأحداث بعد الثورة


أطلق الخميني على الثورة مسمى الثورة الإسلامية، واستطاع استغلال الجو الثوري العام وتجييش المشاعر الدينية. فعندما نظم استفتاء حول الجمهورية الإسلامية رفع شعار «كل صوت بـ» لا «هو صوت ضد الإسلام».

وركز الخميني على ترسيخ نفوذه دستوريا فأكد على ضرورة تدوين الدستور، وتشكيل مجلس شورى يعكس فكر تيار الثورة الإسلامية، وشكل مجلسا للخبراء يضم عددا من الفقهاء أنيط بهم مهمة تدوين الدستور، الذي جاءت مواده لتعكس مدى هيمنة التيار الديني، وتطويع ذلك الدستور لما يخدم مصالحه. ففي مقدمة الدستور تمت الإشارة بوضوح إلى أن إعداد الدستور يقوم على تهيئة الظروف لتحقيق الولاية، وقد جاء في ديباجة الدستور ما يلي «اعتمادا على استمرار ولاية الأمر والإمامة يقوم الدستور بإعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه الجامع للشرائط، والذي يعترف به الناس باعتباره قائدا لهم. وبذلك يضمن الدستور صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصلية».

لقد اعتمد مجلس الخبراء في تدوينه للدستور على عاملين أساسين هما:

1. تعزيز مكانة وصلاحيات الولي الفقيه.

2. مراعاة تطبيق القوانين والأحكام الإسلامية، وتأسيس مؤسسات تهتم بكل ما هو إسلامي في نظام الجمهورية الإسلامية.

ولذا أصبحت أهم المؤسسات الدستورية في قبضة التيار الديني عبر ما يلي:

 


الولي الفقيه (المرشد)


تعتبر ولاية الفقيه الركيزة الأساسية وحجر الأساس لنظام الجمهورية الإسلامية. فإذا كانت السلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية؛ غير أنها لا بد أن تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر وإمام الأمة. ولما كان الأمر كذلك فقد أعطى الدستور صلاحيات للولي الفقيه تفوق صلاحيات المؤسسات الأخرى مجتمعة، بل إن شرعيتها لا تتحقق إلا بموافقة الولي الفقيه.

لقد بدأ الخميني بعد ذلك في توسيع صلاحياته، وتخطى الدستور في أحيان كثيرة. ولعل المتتبع لفكره يلاحظ تطور نظرية ولاية الفقيه وصلاحياتها عنده؛ فبعد أن أعلن في باريس قبيل الثورة أن دوره سيقتصر على الإشراف، ويجب ألا تكون الحكومة حكومة فقهاء، وأعلن «إنني سأقوم في المستقبل -أي بعد انتصار الثورة- بما أقوم به الآن وهو الهداية والإرشاد، بحيث أرشد ما هو صالح وأناهض ما هو طالح، ولن أقوم بأي دور في الحكومة». غير أن واقع الممارسة السياسية للخميني بعد الثورة ذهب إلى أبعد مما كان يقوله قبل عودته؛ لقد نقل الخميني فكره السياسي من مجرد إشراف الولي الفقيه على السلطة، إلى تولي مهامها بنفسه، وأضافت الممارسة السياسية له أبعادا جديدة في صلاحيات الولي الفقيه في النظام السياسي الإيراني.

 


مجلس الخبراء

يمكن القول إن هذا المجلس قد استطاع تحويل الفكر السياسي للاتجاه العقلاني إلى نظرية سياسية ونظام سياسي بتدوينه للدستور؛ فقد أدى مجلس الخبراء دورا مهما في تعزيز مكانة رجال الدين في السلطة من ناحية، ومن ناحية أخرى ضيق مجال المشاركة على التيارات الأخرى عن طريق تغليب الأيديولوجية الإسلامية، والفكر السياسي الشيعي على باقي الأيديولوجيات الأخرى في مواد الدستور.


مجلس صيانة الدستور

يمكن اختزال أهمية هذا المجلس وأثر الفكر السياسي الشيعي في تأسيسه، في أنه حائط الصد الأول تجاه المساس بمبادئ الجمهورية الإسلامية، أو إساءة استخدام مساحة الديمقراطية والحرية التي أعطيت لسلطات مثل السلطة التشريعية بحيث لا تؤثر سلبا في منظومة ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية، فصلاحيات هذا المجلس تعطيه الحق في رفض صلاحية المرشحين للانتخابات، وبالتالي ضمان أن يتوافر فيمن يريد أن يصل إلى تلك المناصب اعتقاده بالجمهورية الإسلامية ومبادئها.