يشدد كتاب «الفكر السياسي الإيراني»، الصادر عن دار مدارك، على أن التيارات اليمينية واليسارية في إيران تتلون وتلون ولاية الفقيه التي تستمد منها شرعية حكمها حسب مصالحها، وهو يشير إلى أن اليسار الذي بقي طوال العقد الأول للصورة داعما لولاية الفقيه المطلقة تغير ونادى بولاية الفقيه المقيدة والمنتخبة عقب خسارته مراكز السلطة تباعا وتولي خامنئي منصب المرشد الأعلى.

 




 


في الجزء قبل الأخير من كتابه «الفكر السياسي الإيراني» الصادر عن دار مدارك للنشر، يواصل الدكتور سلطان محمد النعيمي، التعرض لتطور الفكر السياسي الإيراني، ويصل إلى تناول هذا الفكر الخاص بالتيار الديني الحاكم من بعد الثورة حيث يتميز عن المؤسسة الدينية في إيران، التي تنقسم على نفسها بين مؤيد لولاية الفقيه كما هي مطبقة في إيران حاليا، وآخر رافض للصورة التي جاءت بها في إيران (آية الله حسين منتظري)، وآخر يرفضها تماما كما يرفض سلطة الفقهاء (آية الله حسن طباطبائي القمي). ولذا كان لزاما تمييز التيار الديني المؤيد لولاية الفقيه بلفظ الحاكم حتى لا يشمل جميع المؤسسة الدينية في إيران.

بداية ظهرت قوى التيار الديني الحاكم ضمن القوى التي عرفت بـ«حزب الله» حيث أصدر الخميني وهو في النجف أمرا بتشكيل تنظيم يضم الجامعيين والمثقفين وعلماء الدين. وبعد تأسيس «حزب الجمهورية الإسلامية» طالب الخميني جميع القوى والجماعات بالانضمام لعضوية هذا الحزب للحيلولة دون التفرقة والتشتت، «غير أن هذه الاستراتيجية (أي العضوية في تنظيم واحد) لم تستطع أن تحول دون ظهور الاختلافات والتوجهات المتنوعة. وأدى هذا التباين داخل التيار الديني الحاكم إلى انقسام هذا التيار وظهور جناحي اليسار الديني واليمين الديني في البداية في تنظيمين مهمين؛ هما «منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية» و«حزب الجمهورية الإسلامية»، ولهذا فإن التموجات الداخلية لهذين التنظيمين كان لهما دور حاسم في تبلور جناحي «اليمين» و«اليسار»، وقد ظهرت أهم معالم التباين بين الاتجاهين الإخباري والأصولي في اعتقاد الأول بمقدرة الفقه التقليدي على تناول ومعالجة جميع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. أما الثاني فوجد في الفقه التجديدي الطريق لمعالجة مختلف القضايا، حيث يكون للحكومة دور مهم في معالجة تلك المشكلات فيما يعرف بالقوانين الأولية والثانوية، وتأتي الأخيرة في صورة استثناءات مبنية على الاضطرار، وقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» وقاعدة «الأهم فالمهم» وما شابه ذلك.

 


الرؤى السياسية والاقتصادية


لم تكن رؤى الجناح اليميني واضحة منذ بداية الثورة حتى عام 1989- فمن ناحية لم تكن الظروف التي تلت الثورة ثم اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية تسمح بظهور الرؤى السياسية بشكل واضح لدى هذا الجناح أو جناح اليسار الديني، أضف إلى ذلك ابتعاد اليمين التقليدي عن السلطة، وهو ما حال دون ظهور فكره السياسي بشكل واضح.

وبالرغم من تولي علي خامنئي رئاسة الجمهورية لدورتين خلال العقد الأول للثورة، فإنه اصطدم بصلاحيات رئاسة الوزراء ومجلس الشورى التي سيطر عليهما اليسار طوال تلك الفترة. وإجمالا يمكن القول بأن الرؤى السياسية لليمين التقليدي تركزت في تلك الفترة على مسألة الأحكام الأولية، والتقيد بالدستور، وتأطير ولاية الفقيه ضمن أطره، ومعارضة الولاية المطلقة للفقيه، لكن هذه الرؤى ستتحول بعد ذلك مع وصول اليمين للسلطة. ويرى هذا الجناح أن المذهب في الصورة التقليدية كافٍ لإضفاء الشرعية على الحكومة والنظام من الناحيتين الفكرية والعملية، ويعتبر التأويل أقل ضرورة لدى هذا الجناح مقارنة بغيره، وهو ما له جذور ثقافية محافظة. ومن خلال القاعدة الاجتماعية لليمين التقليدي، الذي ينحدر أغلب أعضائه من فئة البازار والتجار وملاك الأراضي. فإن هناك تأكيدا على الاقتصاد التقليدي والاستثمار التجاري (الوساطة)، وفي المقابل يعارض أي نوع من الاستثمار الأجنبي والاندماج في الأسواق العالمية.

 


السياسة الخارجية

يلاحظ مدى تأثير قرب ووصول أي جناح من الأجنحة داخل التيار الديني للسلطة في مواقف ذلك الجناح تجاه مختلف القضايا السياسية. ولا أدل على ذلك من تبادل الأدوار بين اليسار الديني واليمين الديني بعد عام 1989، وهو تاريخ تزامن مع أفول اليسار الديني عن السلطة في مقابل صعود اليمين للسلطة؛ ففيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه مثلا، لوحظ أن موقف اليمين واليسار الديني قائم في هذه النظرية على عنصرين هما:

1. شخص الولي الفقيه.

2. ماهية نظرية ولاية الفقيه ذاتها.

ففي فترة حياة الخميني، الذي ظل مؤيدا لليسار الديني، طرح اليمين مسائل مثل الولاية الإرشادية للولي الفقيه، كما تعرض كذلك لنظرية ولاية الفقيه ذاتها، وعارض اعتبارها ولاية مطلقة. أما اليسار فقد ظل طوال العقد الأول داعما لولاية الفقيه المطلقة، ولكن مع خسارته لمراكز السلطة تباعا، وتولي علي خامنئي منصب المرشد الأعلى للثورة ومنصب ولاية الفقيه بعد وفاة الخميني، تغيرت سياسة جناح اليسار ونادى بولاية الفقيه المقيدة والمنتخبة، لتتضح أهمية شخص الولي الفقيه وميوله السياسية ومدى قرب أو بعد رؤاه وتوجهاته من جناح اليسار أو اليمين.  وعلى الجانب الآخر لم يقبل اليمين خلال فترة زعامة الخميني بالولاية المطلقة، أما الآن فقد تغير ذلك الموقف بتغير شخص الولي الفقيه، الذي جاء متوافقا مع رؤى جناح اليمين، ورأى أن الولي الفقيه فوق الدستور، بل ويستقي هذا الأخير شرعيته من الولي الفقيه».

 


بين عامي 1989 و2000

 ظهرت بين عامي 1989-2000 توجهات جديدة أشبه ما تكون بتحولات جذرية داخل الفكر السياسي لليسار واليمين الديني، انعكست بوضوح من خلال أطروحات نخب كلا هذين الجناحين. ويمكن إجمال أسباب ذلك التحول في:

1. انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية (عام 1988).

2. وفاة آية الله الخميني.

3. سيطرة اليمين على السلطة وتولي علي خامنئي منصب المرشد الأعلى للثورة.

4. إثراء الفكر السياسي الإيراني بعودة التيار الليبرالي إلى الساحة السياسية.



وبدأت بوادر التحول في الحياة السياسية الإيرانية مع انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية (1988)، حيث بدأ اليمين في السيطرة على السلطات والمؤسسات الحكومية و«يمكن اعتبار فترة انتخابات رئاسة الجمهورية في دورتها الخامسة (1989) بداية للنشاط الموسع لجمعية علماء الدين المناضلين [اليمين] في الحقل السياسي والاقتصادي والثقافي».

فبعد تولي هاشمي رفسنجاني السلطة التنفيذية أبعد جميع الشخصيات الراديكالية المتشددة التي مثلت معسكر اليسار الديني في العقد الأول للثورة، وفي المقابل ظل اليسار محتفظا بأغلبية المقاعد في مجلس الشورى في دورته الثالثة (1988-1992). وبلغ الصراع السياسي بين جناحي اليمين واليسار مبلغه مع تصاعد الخلاف بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، حيث ظل اليسار حجر عثرة في طريق برنامج رفسنجاني الداعي إلى الخصخصة وتشجيع الاستثمارات وحرية التجارة، وهي أمور تتناقض مع الرؤى اليسارية التي كانت تتبناها أغلبية أعضاء مجلس الشورى الثالث.

ومع انتخابات الدورة الرابعة لمجلس الشورى عام 1992 دخل جناح اليمين هذه الانتخابات رافعا شعار «اتباع الإمام، وإطاعة الزعامة، ومبايعة رفسنجاني»، واستطاع تحقيق أغلبية في تلك الدورة، وفي المقابل تحول اليسار إلى أقلية فيه، وبذلك «أصبحت المناصب الحكومية المهمة في قبضة جناح اليمين، حيث سيطر على السلطة التنفيذية يليها التشريعية ثم السلطة القضائية، وعدة مناصب وزارية مهمة مثل الداخلية والاستخبارات، والأهم من ذلك سيطرته على مجلس صيانة الدستور والجيش وغيرها من المناصب المهمة».4  ومنذ ذلك الوقت أخذت التجاذبات السياسية منحى آخر لم يكن هذه المرة بين اليسار واليمين، بل أصبحت نابعة من اليمين ذاته، حيث لم يبدِ مجلس الشورى الرابع الذي شكل أغلبيته اليمين ذو التوجهات التقليدية المحافظة - وهو ما عرف باليمين المحافظ فيما بعد - تعاونا كاملا مع حكومة رفسنجاني، بل إنه استجوب كثيرا من وزراء حكومته، كما حجب الثقة عن عدد آخر من الوزراء؛ وكان ذلك إيذانا بظهور انشقاق آخر داخل جمعية علماء الدين المناضلين، عرف بـ«الانشقاق الثاني»* أدى بدوره إلى ظهور جناح جديد أطلق عليه تنظيم «كوادر البناء» وعرف بـ«اليمين الوسط» أو «اليمين الحديث»؛ الأمر الذي دفع بهذا التنظيم إلى إعلان قائمة انتخابية مستقلة نجحت في الحصول على عدد من المقاعد في ذلك المجلس.

 شكل اليمين الوسط مع جناح اليسار تحالفا جديدا داخل مجلس الشورى الخامس عرف بـ«تجمع حزب الله» داخل المجلس. ويعتبر ذلك التحالف الانطلاقة الأولى لما سمي فيما بعد بـ«تكتل الثاني من خرداد» حيث أُعلن عن هذا التكتل رسميا بعد انتخابات رئاسة الجمهورية في دورتها السابعة (1997) التي فاز فيها محمد خاتمي.

وقبل بداية هذه الانتخابات أصدرت رابطة علماء الدين المناضلين (اليسار الديني) بيانا أعلنت فيه عودتها إلى العمل السياسي، ونجح تحالف اليسار مع اليمين الوسط في تحقيق نجاح كاسح في انتخابات رئاسة الجمهورية السابعة، حيث حصد خاتمي ما يقارب 70% من الأصوات، لينطلق بعد ذلك فصل جديد من التجاذبات والتنافس السياسي في إيران بين اتجاهين؛ ضم الأول جناح اليمين المحافظ وجناح اليمين المتشدد وعرفوا باسم «المحافظون» في الأدبيات السياسية، وضم الاتجاه الثاني اليسار المحافظ واليسار المعتدل واليمين الوسط وعرفوا بـ«الإصلاحيين».

 


فشل اليمين واليسار في شعاراتهما

فشل اليسار واليمين المعتدل في تحقيق الحد الأدنى من الشعارات التي رفعاها، لاصطدامها بواقع حال دون تحقيقها. ما أدى إلى عودة اليأس واللامبالاة للناخبين، حيث وصل عدد العازفين في الدورة الثانية لرئاسة خاتمي عن التصويت 14 مليون ناخب ممن يحق لهم التصويت في انتخابات رئاسة الجمهورية الثامنة (2001-2005)، ثم ازدادت هذه النسبة لتصل إلى 25 مليون ناخب في الدورة الثانية للمجالس الإسلامية (2003-2007).

 


انقسامات المشهد السياسي الإيراني وتوصيفاته

جاءت انتخابات مجالس الشورى الإسلامية في دورتها الثانية لتكون شرارة الانطلاقة لظهور ما اصطلح عليه بـ«التيار الأصولي المبدئي» والذي انبثق من جناح اليمين المحافظ واليمين المتشدد، غير أنه كان مجالا لبروز الوجود الشابة وغير التقليدية مع الاحتفاظ بالمبادئ التي ينطلق منها اليمين المحافظ مثل الإيمان بولاية الفقيه المطلقة.

 حدد المرشد الإيراني سمات وصفات الأصولية بقوله «إن الأصولي هو الذي يلتزم بالمبادئ المنطقية، ويظل ثابتا عليها، ويطابق سياساته وتصرفاته مع تلك المبادئ مثل المؤشرات التي توجه الإنسان إلى أحد الطرق مضيفا أن الأصولية تعتمد على المنطق والعقل والاستدلال والتجربة والعشق لتحرير واستقلال أي أمة».

وفي سياق إبراز الفرق بين الأصولي والإصلاحي يرفض المرشد الإيراني تقسيم التيارات السياسية إلى تيار أصولي وإصلاحي، معتبرا أن «النقطة المقابلة للأصولية ليست الإصلاحية، بل الافتقاد للمبادئ، والنقطة المقابلة للإصلاح ليست الأصولية وإنما الفساد. وما بين هذا وذلك فإن الطريق الصحيح هو الأصولية الإصلاحية».

إن الحركة الإصلاحية التي ظهرت في إيران مع وصول خاتمي لسدة الرئاسة، وتشكيل الإصلاحيين أغلبية في مجلس الشورى السادس، ونهجها الذي سارت به يأتي من منظور المرشد الإيراني بوصفها تهديد مباشر للنظام الإيراني، فنتائجها تخلص كما يرى إلى إحداث ذلك الشقاق في رأس هرم سلطة النظام الإيراني بهدف دفعه إلى التباين والصراع.

انعكس ذلك بدوره على بروز التيار الأصولي والذي أكد على التمسك بمبادئ الثورة والإيمان بولاية الفقيه المطلقة. ففي مقابل سيطرة التيار الإصلاحي على السلطة التنفيذية والتشريعية، وجد التيار المقابل الذي نُعِت من قبل خصومه بعبارات من قبيل المتحجر والمخالف للمنطق والحرية والديمقراطية، أنه لم يفقد سيطرته على تلك المؤسسات الدستورية فحسب، بل سيطال ذلك ليلامس قاعدته الشعبية وفقدان تأثيره الخطابي.

نتيجة لما تقدم قررت شخصيات وتنظيمات من تيار اليمين أخذ زمام المبادرة للخروج من تلك الظروف للعودة من جديد لإدارة الدولة، ومن أهم الشخصيات التي تصدرت المشهد في ذلك الوقت هم: علي اكبر ناطق نوري، وعلي لاريجاني، حبيب الله عسكر أولادي،احمد توكلي، غلام حداد عادل، حسين فدايي، مرتضى نبوي، علي دارابي، محمد رضا باهنر، محمود أحمدي نجاد، إلخ.

ذلك التحرك من قبل التيار المنافس للإصلاحيين جاء وعلى غير العادة من قِبل التنظيمات والتشكيلات غير التقليدية في التيار المحافظ وأفرز تنظيم «مجلس تنسيق قوى الثورة» الذي أصبح مركز الثقل للقوى المبدئية والثورية وتولى إعداد السياسات والبرامج والتنسيق بين تلك القوى. ولقد تركزت أهداف المجلس في تبيان الأهداف الثورية وإرشادات الخميني والمرشد الإيراني الحالي نحو إدارة سليمة للدولة وتحقيق الوحدة بين القوى الثورية بوصفها أهم أهداف مجلس تنسيق القوى الثورية.