1.

يتفق الجميع على نقد الفساد، وأهمية مكافحته، إلا أنه من العقل والرزانة - في نظري- ولئلا تزل قدم بعد ثبوتها، أن يُسأل من يصف غيره بالفساد ماذا تقصد بالفساد، وما مظاهره وأمثلته؟

وذلك لأن بعض الناس يقلب الحقائق، فيجعل الصلاح واتباع النظام فسادا، ويعتبر من لم يحقق أهواءه فاسدا، فيتجنى على الأشخاص والجهات، وهذا المسلك الظالم الخاطئ ليس جديدا، بل ذكره الله في كتابه الكريم عن فرعون وقومه، وذلك أنهم اعتبروا دعوة موسى عليه السلام إلى صلاح العباد فسادا كما قال تعالى عنهم: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)، أرأيتم كيف سموا الطاعة لله تعالى: فسادا، وكذلك قال فرعون لقومه محذرا من موسى، بما يسميه فسادا: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، فسمى التوحيد والطاعة فسادا، فليس كل من ادعى أن غيره واقع في الفساد يكون صادقا، بل قد يكون هو أحق بهذا الوصف وأهله، ولو أن كل شخص يدَّعي على غيره الفساد، يُطالَب بتقديم ما يثبت دعواه، فإن صحت يكافأ، وإن لم تصح يعُزِر ويُسجن، وليس إما سالما وإما غانما، لو تم هذا لكان خيرا وأحسن عاقبة.



2.

بعض الناس يحجر واسعا، ويظن أن الفساد، هو مصطلح خاص بالتجاوزات المالية والإدارية، فنشأ عن هذا التوهم، التناقض بأن يفعل الإنسان الفساد وينهى عنه في آن واحد، وإذا قيل له: ابدأ بنفسك فانهها عن فسادها، قال: لم أقع في الفساد لأني لم أتجاوز ماليا أو إداريا، فيقال له: التجاوزات المالية والإدارية هي فساد ولاشك، ولكن الفساد ليس محصورا في ذلك، فالمعاصي كلها فساد في الأرض، واقرأ إن شئت قوله تعالى (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، والطغيان والترف بالمعاصي فساد في الأرض، كما قال تعالى (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)، والتهوين من شأن المعاصي وإباحة ما حرم الله فسادٌ في الأرض، قال الله تعالى: (ولا تبغ الفساد في الأرض)، وقال تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهطٍ يفسدون في الأرض ولا يصلحون)، وبخس الناس أشياءهم، والخروج في وقت الدوام الرسمي بما يضر الناس، ويبخس حقوقهم ووقتهم: فسادٌ في الأرض كما قال تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، والنفاق والتلون وإتيان هؤلاء بوجه وأولئك بوجه آخر: فساد في الأرض، كما قال تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، فكل ما نهى الله عنه ورسولُه عليه الصلاة والسلام هو فساد في الأرض، ولو أن كل إنسان أصلح نفسه، لزال الفساد أو قل، أما أن يرى الإنسان القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فهذا إعجاب بالنفس وبلاء عظيم، وأسوأ من ذلك أن يرى الماء الزلال، فيصفه بالملح الأجاج، وما ذاك إلا لفساد تصوره وطبيعته، وقديما قال المتنبي:



ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ

يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا.



3.

يجب الحذر من جميع المعاصي، فهي فساد وسبب لكل بلاء وشر وفتن وأوجاع، فإن لم يتسع علمك لهذا - كما يقول ابن القيم -فا كتف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏}‏، ‏ونزّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم‏.‏..فجعل الله ظلم المساكين، والبخس في المكاييل والموازين، وتعدي القوي على الضعيف سببًا لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزًا، لتحق عليهم الكلمة، وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسيّر بصيرته بين أقطار العالم، فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته، وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، وبالله التوفيق.