لماذا لم ندخل عصر الحداثة؟ لأننا ننظر للحداثة بشكل آلي، فكل من يقول: نأخذ من الحداثة ما ينفعنا ونترك ما يضرنا، ينظر للحداثة بشكل تقني مادي، أي أنها مجرد أدوات ومعدات وتقنيات، فمفردتا (نافع وضار) لهما إيحاءاتهما المادية، بينما العقل الذي يستطيع منافسة الحداثة والركض معها، يطرح مسألة الحداثة من حيث وجاهتها الفكرية، أي نأخذ من الحداثة كل ما هو وجيه فكرياً، وليس كل ما هو نافع مادياً فقط.

الحداثة كفكرة أوروبية تحمل بداخلها منظومة عميقة لم يدركها الهندي الأحمر في أميركا، فكاد أن ينقرض، الهندي الأحمر لم يتجاوز فهمه للحداثة قدرته على استخدام البندقية الحداثية نيابة عن القوس والفأس والرمح، بينما ظل سؤال الحداثة غائباً عنه، بعيداً عن منطقه.

في الوطن العربي بعد سقوط الدولة العثمانية لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار الفضل الذي قامت به أسماء عايشت الغرب، وتعلمت في مدارسه، استطاعت تطعيم المزاج العربي ببعض الأطروحات التي صنعت أرضية أخرجت العرب من دائرة الهنود الحمر إلى دائرة التفاوض في حق تقرير المصير، لتصبح محاربة المستعمر واجباً وطنياً على المستوى الحداثي، ولكن هذه المحاربة لم تتشرب الحداثة بما فيه الكفاية في أدواتها النضالية، فاستكملت مجهودها الحربي بفكرة قروسطية أنتجت مثلاً (مليون شهيد)، وكان من أثر قبول النضال الحداثي لهذا المعنى القروسطي كقاعدة شعبية، أن جاء أحفاد المليون شهيد يطلبون العمل وفيزا الإقامة في بلد المستعمر القديم ولو برمي أنفسهم على شواطئه.

الحداثة منظومة قامت على أكتاف كل العرب من مختلف الأديان، قبل ثلاثمئة سنة على شكل نظريات مكتوبة في الكتب، ورجال حداثيين أحاطوا برجال التحرر الوطني في كل بقعة من بلاد العرب ليتحول نزاع الغزو بين المشيخات إلى صناعة دولة حديثة يعترف بها العالم على يد هؤلاء الحداثيين كرجال مخلصين للدولة الوطنية الحديثة، لكن الخطاب القروسطي كان يطفو على الخطاب السياسي الممثل الحصري لكل (الأوتوقراطيات) العربية منذ أيام نهضة محمد علي في مصر، وافتتانه بالحضارة الفرنسية وحتى الآن.

الحداثة ليست طارئة كفكرة على تاريخنا العربي النخبوي، ولكنها ما زالت طارئة على تمثلها في وجداننا الشعبي، فما زلنا نصعد الطائرة حتى هذه اللحظة، وهي تحمل ما يزيد على مئة راكب، وكلنا نسبح الله كي تطير بأمان، بينما العقل الحداثي الذي صنعها، كان يسبح بقانون الجاذبية ومعادلات الفيزياء كي تطير، وهذا الفرق الجوهري الذي يذكرنا بحادثة تشالنجر عام 1986 التي عندما نستعيد النقاشات والبحوث التي حصلت بعدها كعقل حداثي يبحث عن الخطأ ليتلافاه ويحاسب المتسبب، ويواصل مسيرة أبحاثه في اكتشاف الفضاء، بينما ردة الفعل الأولية عندنا على فساد البنية التحتية مما يؤدي إلى غرق المنازل، هو المعاصي التي ارتكبها أهل هذه المدينة، وهذا التفسير ينتمي لغير القرن الحادي والعشرين.

الحداثة لم تدخل شرايين المثقف الذي يحكي عنها وهو عاجز عن تمثلاتها البسيطة في أن يحترم قرار ابنته (الراشدة) في الزواج ممن اختارته ولو كان مخالفاً لها مذهباً أو لوناً أو عرقاً، لتبقى الحداثة حتى على المستوى الثقافي مجرد أحرف سردية للتداول النظري دون محاولة إنزالها على الأرض لتمشي بيننا على شكل واقع حي يتجاوز مجرد امتلاكنا لأدوات الحداثة دون روحها الجديدة.

الحداثة تصنع القطيعة مع الفهم القديم وليس النص القديم، الحداثة تستنطق الحضارات قبل آلاف السنين منذ رعاية بونابرت لآثار المصريين أكثر من رعاية المصريين لها، وعجزهم عن استنطاقها حتى جاءت الحداثة لتحييها من جديد، وتفك طلاسمها التي عجز أهلها عن فكها، فكيف نخاف الحداثة على التراث وهي أقدر من غيرها على رفع غبار التاريخ عن الأحداث المفصلية في تراثنا العربي منذ حضارة سبأ قبل أربعة آلاف سنة في الجنوب وحتى مملكة دومة الجندل في الشمال، مروراً بتاريخنا الإسلامي القريب قبل ألف وأربعمئة سنة في مكة وحتى لحظتنا الراهنة، نحن نعيش حقيقة تاريخية لا نخاف عليها من الحداثة، لا يخاف الحداثة سوى من يعيش الأساطير، رغم أن الحداثة تتفهمها ولا تنفيها حتى في طوطم القبائل البدائية في أستراليا.