فاز الفقه وأصوله، وعلم الكلام (أي العقائد) والحديث رواية ودراية، والتاريخ والتراجم، بالنصيب الأكبر من اهتمام علماء المسلمين في القديم والحديث، على حساب الجانب الروحي والجانب الأخلاقي القيمي اللذين فاز بهما التصوّف الإسلامي، والذي لا يقارن ما كتب فيه بما كتب في الفنون المشار إليها.

يدلّنا هذا على أن هناك جانبا متضخما في النظر والدرس والتأليف على حساب جانب آخر. ومن دون التقليل من أهمية الجانب المضخَّم؛ فإن الجانب «الأهمّ» أي الجانب القيمي الأخلاقي، والجانب الروحي، يعانيان شيئا من التقصير، عند عامّة الناس، وعند العلماء والباحثين والدارسين.

وقد عبّر المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه عن نقد العقل الأخلاقي العربي، أن هناك شحا في المصادر عن الأخلاق، وأنه لا وجود كافيا لمؤلفات متخصصة فيها وفي فلسفة الأخلاق. وأرى أن في كلامه وجها يؤيده الواقع. مع العلم بأن التصوف الإسلامي اعتنى جدا بالأخلاق، بل من تيارات التصوف الإسلامي من لا يرى التصوف إلا أخلاقا، بل هناك من لا يرى الدين بما هو دين إلا أخلاقا مع الله، ومع الخلق، ولذلك نقل ابن قيّم الجوزية عن أحد الصوفية قوله: الدين خُلُق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين.

من دون أخلاق، كالنزاهة، والصدق، والأمانة، والتجرّد، والإخلاص، والوفاء وغيرها، ينحرف كل شيء عن مساره، حتى العلم الطبيعي الذي يضحى بدلا من نفع البشرية، وسيلة للقهر والعلوّ في الأرض، واستغلال الضعفاء والفقراء والمحتاجين، وعلى هذا أمثلة كثيرة لا يتسع المقال لذكرها.

وكما أن الفنون والعلم تضخمت جوانب منها على حساب جوانب، فكذلك التديّن طغت فيه الجوانب «الشكلانية» على الجوانب الأخلاقية والروحية عند عموم الناس، حتى في معايير «التديّن»، والحكم على الناس، فمن طالت لحيته، وقصر ثوبه، وامتنع عن سماع الغناء والموسيقى مثلا كان عند بعض الناس متدينا، ملتزما، جزاه الله خيرا! وإن كان شرس الأخلاق، فظا غليظا، محتالا في بيعه وشرائه، متأولا في أكل أموال الناس، مطففا في الميزان، عنصريا، متعصبا. ومن قصرت لحيته، وطال ثوبه، واستمع إلى الغناء والموسيقى، فهو «غير متديّن» نسأل الله له الهداية، وإن كان حس الخلق، بشوش الوجه، أمينا في بيعه وشرائه، ثقة في نقله، متسامحا مع الخلق، لا يرى لنفسه فضلا على عباد الله، ويرى الناس سواسية كأسنان المشط.

وبسبب اختلال الأخلاق هذا، تجد بعض الأناسيّ سريعا في الباطل، مزدوجا في المعايير، مطلقا لسانه في كل شاردة وواردة، وفي كل ما علم وما لم يعلم!

ومن الأمثلة على هذا الاختلال الأخلاقي ما رأيناه من «مساعر الحرب»، الذين كان لهم وقت الثورات العربية صولات وجولات، وخطب رنّانات، بأشدّ ما يملكه أحدهم من فنون البلاغة والبيان والتأثير، وهم كانوا قبل مدّة يسيرة من تلك الثورات يثنون على أنظمتها، ويدعون لحكّامها.

ولئن كان هذا الفريق قد ارتضى أن يحضّ الناس على أن يثوروا وهو قاعد في بيته مستريح، تلامس وجهه نسمات التكييف البارد في شدة القيظ، آكلا أطايب الثمرات، مستجيدا أصناف الطبخات والأكلات، في حين يرى الناس يخرجون إلى الشوارع يتعرضون للقصف والاقتتال، في أوضاع صعبة، شهدنا اليوم مآلاتها، ولا نزال نشهد. لئن كان هذا الفريق حضّ وحثّ وشجّع وأيّد في بلاد غير بلاده، إذا هو ينهى عن أن يجري في بلاده، ما كان يأمر بأن يجري في غيرها! فهل تدفئ النار فيما لا يمسّك، ما تحرقه فيما يمسّك؟

وبماذا نفسّر هذا الاضطراب والتذبذب والتأرجح والتناقض؟ حتى إذا مسّ الأمر بلاده، وتهدّد أمنها، فإذا أصحابنا هؤلاء بين صامت صمت القبور، لا تسمع له ركزا، وبين موارب في القول، متلاعب في الكلام، أو ناه كل النهي عمّا يراه «فتنة» لا تحلّ ولا تجوز، ولا يقبل فيها كلام! فما عدا عمّا بدا؟

فهلا -رحمك الله- التزمت هذا فيما كان يجري خارج بلادك، وصمتّ ولم تتدخل في شؤون دول أخرى لا يحل

لك التدخل فيها؟ وهلا التزمت -هدانا الله وإياك- الصمت فيما قبلُ، كما التزمتَه فيما بعدُ؟ وهلا -أصلح الله قلبي وقلبك- نهيتَ عمّا يجري هناك، كما تنهى عمّا يجري هنا؟ وهلا -إن لم تكن ذا وجهين- مضيت في طريقك إلى آخره ولم تتلوّن مع كل حادثة، وتنحرف مع الريح حيث تميل؟

نعم، إننا نعاني مشكلة في الأخلاق.