الإفتاء اليوم عمل مؤسساتي وليس اجتهادات فردية، لم يعد مجرد علاقة بين شخص يسأل وشيخ يفتي، إنما هو أشبه ما يكون بصناعة تستفيد منها الدولة وتؤثر في المجتمع، ولأن الإفتاء بهذا التأثير والأهمية، فمن الطبيعي أن يكون تحت مظلة مؤسسة رسمية متمثلة بهيئة كبار العلماء، مؤسسة تجري فيها اجتماعات ومباحثات وتنبثق عنها لجان، مؤسسة تصرف عليها ميزانية ويعمل فيها موظفون مهمتهم إعداد الأوراق وتهيئتها لعرضها والتباحث حولها.

وقد نظمت الدولة مسألة الإفتاء ووضعت لها شروطا وضوابط صارمة تمنع حتى المفتي العام أو العالم المعتبر من الإدلاء بالفتوى منفردا، إنما الرأي رأي مجموعة من كبار العلماء يقومون بعمليات عصف ذهني خلال جلسات دورية يتباحثون خلالها شتى المسائل لتأصيلها شرعيا، فإذا كانت المسألة محل النظر معنية بشأن اقتصادي أو تجاري، كالقضايا البنكية أو التجارية، فسيحضر هذه الجلسات واحد أو أكثر من المتخصصين للمساهمة في التوضيح والتبيين دون الإفتاء.

وهكذا نجد أن عملية ضبط الفتوى ليست بالأمر الهين، والدولة عبر مأسسة الإفتاء أرادت إصلاح هذا الجانب وتجنب انفلاته وغلق الباب أمام أي محاولة للخروج على العامة بفتاوى صادمة، الإشكالية هنا هي في مسألة النقد، فهيئة كبار العلماء هي في الأخير مؤسسة من مؤسسات الدولة، مؤسسة يتم الصرف عليها من خزينة الدولة، وطالما يتم الصرف عليها فهي كمؤسسة محل نقد على الدوام، لا نقد الفتوى بالضرورة، إنما نقد آلية العمل داخل هذه المؤسسة.

فرغم كل هذا المجهود الجبار والذي يشكر عليه العاملون في هذه المؤسسة، وعلى رأسهم العلماء الموقرون، إلا أن هنالك أسئلة مفخخة تنجح في الوصول إلى طاولة البحث والنقاش، هنالك مفاهيم يتم عرضها على كبار العلماء بطريقة محددة تهدف إلى جر الفتوى للمنطقة التي يريدها السائل، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عما يفعله العاملون في هيئة الإفتاء بالضبط؟ فنجاح مرور سؤال مفخخ واحد دلالة على وجود خلل في آلية العمل، دلالة -مثلا- على تهاون في مسألة التدقيق والتمحيص قبل وضع السؤال على طاولة النقاش، ثم إن عدم الانتباه لوجود الفخ في السؤال أثناء النقاش يجعلنا نتساءل أيضا عن منهجية البحث التي يتبعها العلماء!.

والملاحظ أن التفخيخ لا يظهر إلا في المسائل الاجتماعية العامة، والمسائل الاجتماعية العامة بطبيعتها تختلف عن المسائل الاقتصادية والسياسية والتجارية من ناحية عدم وجود متخصصين يشاركون العلماء نقاشهم للتوضيح والتفنيد، ومن أمثلة هذه المسائل الاجتماعية «قيادة المرأة، الولاية، النقاب، الاختلاط... الخ»، وكأن ما يحدث في حقيقة الأمر أن مثل هذه المسائل العامة لا توضع على طاولة نقاش العلماء لتوضيح الرأي الشرعي حولها، إنما للخروج بنهي صريح عنها!.

كمثال، نجد السائل في العادة لا يسأل عن حكم قيادة المرأة للسيارة فقط، إنما يتبع سؤاله بعبارات لا هدف منها إلا جر الفتوى لمنطقة النهي والتحريم، فيخرج السؤال حينها على شاكلة «ما حكم قيادة المرأة للسيارة، حيث من المعلوم أنها تؤدي لمفاسد لا تخفى، وأنها تمهد للسفور والاختلاط وارتكاب المحظور؟!»، وهكذا يتم حشر جواب التحريم داخل السؤال نفسه، وليس على العالم حينها إلا الموافقة والإقرار وعرض الجواب الكلاسيكي المتوقع، حينها يطير السائل بالجواب ليصور للمجتمع أنه تحصل على جواب عن حكم قيادة المرأة فعلا، رغم أن الجواب في الحقيقة عن فرضيات تم حشرها داخل السؤال.

إن الفتوى رغم أنها تصدر اليوم عن مؤسسة، إلا أنه لا ينبغي التعامل معها كقانون، فالقانون محدد ودقيق ولا مجال فيه للتأويل، مثلا قطع الإشارة مخالفة قانونية واضحة ولا مجال فيها لرأي مخالف بينما في الشرع، فجمالية الأمر في عدم الاكتفاء بالرأي الأوحد وإن اتفق عليه مجموعة من العلماء، لهذا وفي المسائل الاجتماعية العامة ينبغي أن تكون الفتوى عامة شاملة تسمح بتنوع الآراء، ولا ينبغي في هذه المسائل أن يتم إصدار فتاوى بغرض قطع الطريق أمام بقية الآراء الشرعية المعتبرة والمتنوعة.

خلاصة الأمر، أن فتاوى النهي والتحريم المبنية على فرضيات وأسئلة مفخخة، تضع مؤسسة الإفتاء نفسها في مواقف محرجة مستقبلا، وتجعل المجتمع يرتبك حين تضطرنا الظروف غدا -كما تفعل في العادة- لفعل ما نعتقد اليوم أنه حرام شرعا بلا علة واضحة إنما بناء على توهمات، فهل مؤسسة الإفتاء بحاجة اليوم أن تنتهج نهجا جديدا في الإفتاء؟