منذ أن نشأت داعش وحتى سقوط أجزاء منها مؤخرا بعد مضي عامين على نشأتها، كانت هناك تكهنات بزوالها، لأنها كما قال أحد المحللين العراقيين كانت محاطة بالأعداء، كما أنها عادت من دول العالم الأباعد تماما كما عادت الأقرب لها! أيضا كان هناك أكثر من قراءة لبشاعة وتتابع العمليات الإرهابية حول العالم في فترات متقاربة على أنه مؤشر على زوالها، وهذا ما حصل، تبددت وكان شعارها تتمدد وزالت وكانت تظن أنها باقية! لكن الوجع الذي خلفته على الأرض لا يوصف، ولا أظن في تفجير منارة الموصل التاريخية بشاعة أكثر مما تبقى من الروع والذهول على وجوه النساء وسحن الأطفال الخارجين من أجداث الصراع مع آخر فلول الانغماسيين والقناصة وغبار المنازل التي أصبحت أثرا بعد عين يغطي وجوههم!

تعود الموصل لتثبت أن الحياة التي بقيت تغلبت على انغماس الموت والرعب الذي كان، ولكن من جهة أخرى لا شك أن ما تبقى من بشر أمامهم طريق يحتاج فيه أهل الموصل وكل من تأثر بداعش، أو تأثر بما كانت تقوم به من تفجيرات على امتداد العراق.

في كل وطن أخذته صراعات الحروب والتطرف الأقل حظا، هم الذين كانت رحى الحرب تدور بين بيوتهم التي لم يغادروها، وربما تحولت لقبور بعضهم، لكن حروب الإرهاب أشد وطأة، فهي لم تكن حربا مع عدو بقدر ما كانت حربا على الإنسان وحتى حيوان الأرض وجمادها الذي لا ذنب له أيضا.

عندما كانت الآثار تُحَطْم وتُسْرَق، كنت أبحث عن الرسالة التي خلف ذاك التحطيم، ولاحقا تفجير منارة مسجد الموصل، ولم أجد إلا تعمد الإساءة لكل ما يمثل تاريخ وعقيدة العراق.

عراق بغداد والموصل وسامراء وكل ما حفظته الذاكرة والوجدان يجب أن يعود أقوى مما كان قبل أن يحل به خراب الصراعات، ويحتاج الإنسان الذي تبقى فيه تحت عذابات الحرب أن يستعيد بيته وحقله وماءه وشوارعه، والأهم ثقته بأخيه الإنسان، وأنه لن يراه شاهرا سلاحه في وجهه مرة أخرى.

الدمار يحتاج إعادة بناء، ومن دفع ثمن الأسلحة يجب أن يدفع ثمن البناء ماديا ومعنويا، وما أجمل الروح التي يحملها المثقف العراقي الذي يدعو لعودة العراق للصف العربي، مؤكدا أن العراق لن يبدل عروبته بعجمة غيره.

وقبل شهرين من تحرير الموصل رحل شاعره معد الجبوري الذي صدق حين قال:



يا موصلَ المجد، ما هانَتْ بِمُعتَرَكٍ

ولا شـكَتْ، فَرْطَ ما لاقَتْهُ، مِنْ وَهَنِ

حَصَّنْتُ وجهَكِ بِاسمِ اللهِ مِنْ حَسَدٍ

و مِنْ أراجِيفِ أطمَاعٍ، ومِنْ فِتَنِ

ما زلتِ، والشمسُ مِنْ كَفَّيكِ طالِعةٌ

حِصْنَ الفُراتَينِ، في الأَرزاءِ والمِحَنِ



الضفة الثانية لطغيان داعش كانت في الرقة، ولا أدري هل كان اسم المدينة مختارا من التاريخ بعناية ليغتاله العنف ويوجه رسالة دمار نفسية؟!

الرقة كانت أوفر حظا بالأسى لكثرة المتحاربين للسيطرة على أرض سورية، ولن تكاد تعرف من يقاتل من؟! ولا لمن ستؤول الرقة؟ لكن الرقة التي تخلع سواد رايات رفرفت عليها، ويتحرر بتحررها من تبقى من استرقاق للبشر الذين أطفالا كانوا أو نساء أو حمقى أخذتهم الحمية التي دعت لها منابر الذين قالوا للشباب اذهبوا وقاتلوا وقعدوا عنه!

استرقاق الإنسان من أبشع ما مرّ به تاريخ داعش الأسود، لأن فيه محاولة لإظهار الإسلام ضد أبسط حقوق الإنسان، وهو الحرية التي ولد بها، ولا تسألهم متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

عندما قدمت الدراما في غرابيب سود المرأة مغررا بها داعش أو سبية لم تبتعد عن واقع امتهان النساء، فكل يوم كانت ولائم أعراس الرقة بحجم أوجاعها، ولا أفضح سرا إن قلت إن محاولة استقطاب النساء فعلا كانت تتم بأكثر من شكل بشع منها التغرير.

ستبقى حجة الملكية التي انتشرت في الشبكة العنكبوتية لنجمة سعيد إسماعيل ذات العيون العسيلة والتي طولها 130 سم، وكتب أن عمرها عشرون عاما، وكأن الطول يكشف عن معاناة طفولة استرقت وعذبت وتم امتهان إنسانيتها، وإن كانت قد تجاوزت الطفولة، كما ذكرت الوثيقة، فهي لم تتجاوز معاناة الإنسانية المستباحة بأبشع صورة في القرن الحادي والعشرين، بيعت الأخ أبو منعم للأخ أبي الزبير! وآه كم بيع معها أخريات، وبيع ما يزعمونه من يتباهون بالتمسك بالإسلام وبتمثيل لرحمة الإسلام!

ولكن لأختم كلامي بأسئلة عن الذين يخرجون من تحت الأنقاض والدمار النفسي والامتهان الإنساني هل أعد لهم ما يعيد لهم أرواحهم المسلوبة؟

وهل في تقبل البشر لفكرة الرق في القرن الواحد والعشرين، مما يحمل مؤشرا على مساءلة تاريخ الرق الذي لا يزال بعض الناس لم يتحرر منه ويراه حلا لاستخدام البشر لمصالحه الخاصة؟!

وهل سنجد لداعش بواكي تمجد حكم الدم والقهر والظلم؟

وهل سيتلقف الأدب تلك المعاناة ويحولها لرسائل وعي لمن تبقى مؤمنا بخلافة داعش الدامية؟

وأخيرا هل من قتل البشر في كل مكان وفي الرقة بوحشية بماله وتخطيطه آمن مكر الله؟!