لو أرادت الدولة بناء كوبري للمشاة فستكلف مهندسا أو أكثر لوضع التصاميم وخطة سير العمل، فإذا سقط الكوبري على رؤوس المشاة أو شارف على السقوط فستتم مراجعة عمل المهندسين فورا، أما إن لم يكن في

كامل الدولة مهندسون أكفاء قادرون على تأدية مثل هذه الأعمال فالخلل إذًا من الجامعات والكليات ونظام تعليم الهندسة، والفرضيات المبسطة هذه تنطبق على كل المجالات العلمية، الهندسة والطب والقانون والعسكرية.. إلخ.

من يتخصص في دراسة مجال محدد سيعمل غدا بالنيابة عن المجتمع في مجال تخصصه، مثلا، إن كان في المجتمع مجموعة متخصصة في مجال تقنية المعلومات فهذه المجموعة تنوب عن المجتمع في سد هذا المجال لاستحالة إلمام كل أفراد المجتمع بالمجال التقني، أي أن التخصص بمثابة فرض الكفاية إن قامت به مجموعة

سقط عن البقية، فإن لم تتمتع هذه المجموعة المتخصصة بالكفاءة اللازمة فيحق للمجتمع حينها أن يراجع النظام التعليمي للمجال محل التخصص، كما يحق للمجتمع أن يحاسب هؤلاء بلا حرج إن كانت نتائجهم على أرض الواقع غير مرضية.

مع ملاحظة أن التغيير في المناهج التعليمية ليس مشروطا بحدوث خلل، بل هو أمر يجري بشكل انسيابي مستمر كون العلم بطبيعته متغير، غير ثابت ولا مستقر، فالعلم دائما في حالة نقص لهذا فهو في حاجة لأن يضاف إليه

ويتم التعديل فيه بلا توقف، كل ما في الأمر أن حدوث الخلل يجعل من مسألة المراجعة والتصحيح مطلبا شعبيا، فهل هذا الأمر ينطبق على العلم الشرعي؟

إن قلنا نعم، فنعم هنا مجاملة لأن الواقع يثبت أن الجواب قطعا بالنفي، والنفي هنا ليس اعتباطيا، إنما لعلة في العلم الشرعي، فما علة العلم الشرعي؟

إن علة العلم الشرعي ليست في كونه علما مبنيا على «مقدس»، إنما في كونه يكتسب ذات قدسية النص المقدس بكل تفرعاته وتشعباته، رغم أن هذا العلم ليس إلا اجتهادات بشرية بالكامل! إنه في حقيقة الأمر ليس علما بالمعنى الصحيح للعلم والأكيد أيضا وليس نصا مقدسا، إنما هو نتاج عملية تزاوج ما بين العلم والنص المقدس، أو بمعنى أصح هو مشي على الحبلين، لهذا وإن كانت التغييرات والتعديلات تجري عليه إلا أنها تحدث على الديكور الخارجي فقط، والذي لا يؤثر في ثقافة وعقيدة المجتمع، مثلا، تجوز مراجعة أسانيد الحديث لكن لا تجوز مراجعة الحديث نفسه، رغم أن ما يهم الناس فعلا هو الحديث لا أسانيده، وهكذا.

إن الله -سبحانه- وصف القرآن الكريم بقوله «ذلك الكتاب لا ريب فيه» مما يعني أن كل ما عدا القرآن هو بالضرورة «فيه ريب»، وكل ما فيه ريب فلابد من صيانته باستمرار، هذا لأن كل ما عدا القرآن هو إنتاج بشري، وكل إنتاج بشري في طبيعته النقص والخطأ، وهذا الأمر ينطبق حتى على العلم الشرعي، غير أن المتخصصين

في هذا العلم «بحوره» هم من يحدد ما يمكن التغيير فيه وما لا يمكن الاقتراب منه -ومعظمه لا يمكن الاقتراب منه!- وهذه ثاني أخطر علل العلم الشرعي. والمتخصصون فيه لا يتركون التعديل والتغيير يأخذ مجراه الطبيعي إنما يحددون له مسارات على الهامش لا تؤثر في جوهر هذا العلم، بالتالي لا يتأثر السائد. فما الحل؟!

وقد ثبت تحديدا خلال الربيع العربي أن الخلل الذي تسبب به المتخصصون في العلم الشرعي يعتبر كارثيا بامتياز، فهم من وضعوا التصميم وخطة سير العمل حتى انتهى المطاف بظهور عصابات طائفية دموية تتعبد الله بالقتل، فهل يلام هنا من سار في هذا الطريق أم يلام من رسم وعبد الطريق؟

هل يلام العامل البسيط ويتحمل وزر سقوط الكوبري على رؤوس المشاة أم يلام المهندس الذي درس وتخصص

في الهندسة؟

لكن كيف سيشير المجتمع باللوم إلى متخصصين في علم بشري يلقبون أنفسهم بالربانيين وأصحاب الفضيلة

وحجج الدين وناصريه وحماته؟! ومن ذا الذي سيجرؤ أن يقول لورثة الأنبياء: قد أخطأتم ولابد من مراجعة مناهجكم وأساليب عملكم، إنه إن كان تخصصكم علما فلا حرج إذًا من إجراء تغييرات فورية في هذا العلم كي

لا تتكرر الكوارث مستقبلا، أما إن كان تخصصكم مقدسا لا يجوز المساس به فهو إذًا ليس بعلم إنما وحي يوحى إليكم، فحددوا لنفهم، لأن المشي على الحبلين نتائجه وخيمة.

أحد الحلول للخروج من هذه الدوامة أن تسمى الأشياء بمسمياتها الصحيحة، أن يسمى العلم الشرعي بعلم التراث أو علم الاجتهادات -كمثال-، كي يأخذ التغيير في هذا العلم مجراه الطبيعي، وكي يرفع الحرج عن المطالبة بالمراجعة الشاملة، وأيضا كي لا يتطلب لوم المتخصصين نشوء صراعات وصدامات داخل المجتمع.

أن يسمى العلم الشرعي بعلم التراث أو بأي مسمى يعيده للأرض من جديد، فهذا ليس انتقاصا إنما وصف لما يدرسه الطالب، فما يتم تدريسه هو تراث السلف، وتراثهم كتب ومعتقدات وآراء اجتهادية، ولا بأس في أن يتم تدريس هذا التراث لمن يرغب، لكن أن يطلق على كل هذا مسمى شرع، وأن يتم التعامل مع كل ما جادت به

قرائح السابقين أنها شرع مطهر بطهارة النص المقدس فهذه أخطر علل العلم الشرعي.