في إيوان اليمامة الذي جمعتنا فيه وزارة التعليم العالي ـ قبل عقد من الزمان تقريباً ـ حضر الوزير العنقري مشكوراً ليناقش معنا (ماذا يريد المثقف من السلطة؟)، وكان اعتراضي يتناسب وحماسي في عمري آنذاك، إذ قلت: العنوان غير مناسب لأن استخدام مفردة (السلطة) يربك المثقف ـ خصوصاً في الوطن العربي ـ فتصبح أقصى إرادته السلامة منها مع ضمان لقمة العيش، وكان اندفاعي الغاضب سببه مداخلة البعض بشكر الوزارة على الفندق الفاخر والضيافة الطيبة، فكأن جل ما يطلبون تكرار الضيافة والفندق.

بعد عشر سنوات من تلك الحادثة شعرت بأني كنت أعاني آنذاك ما يشبه (طفولة اليسار)، رغم أني أبديت بكل صراحة ووضوح بعد كلمة هادئة للشيخ حسن الصفار الذي كان من ضمن الضيوف معنا، أن الزمن تجاوز السلطة القديمة التي تجر العربة بحصان ملتح، وأن الحل ليس في استبدال الحصان الملتحي بحصان غير ملتحي، بل الحل يكمن في اللحاق بالعالم والتخلص من نظام العربة نهائياً، والانتقال إلى طريقة الدفع الذاتي في سيارات العالم الجديد.

كل هذا مضى ونسيته، وتذكرته هنا من باب الذين يتذمرون من سقف الحرية الضيق، فأعترف أني قد حصلت على حرية في التعبير والرأي لم يلحقني فيها أي لوم وعتب سوى مراجعتي الذاتية لنفسي مع التقدم في السن وأنا الآن أنتظر الخمسين بعد بضع سنوات، لكن طريق الحرية (النسبية) الذي حصلت عليه، كان ثمرة الانشغال بالقراءة أكثر من الكتابة، والانقطاع عن الناس أكثر من لقائهم، فلم أكن يوماً (إسلاميا سابقا)، فأقصى خبرتي أنها أيديولوجيا تعايشت مع أصحابها حولي ولكني لم أعشها، وكل أسفي يكمن في المنهج الذي (سرق البسمة) من على وجوه الناس، أما علاقاتي الثقافية فبقيت تقريباً بلا علاقات بالمعنى (الشللي)، أعز أصدقائي هم دائرتي العائلية لأسرتي التي أجد فيها رائحة أجدادي كفلاحين ورعاة أغنام.

أكتب هذا المقال سعيداً بما أراه من توجه وطني يريد الانتهاء من عصر العربة القديمة والمراوحة في جرها بين الأحصنة، لقد ارتبك البعض عندما رأى القيادة تريد إحالة العربة إلى متحف التاريخ كجزء من الذاكرة السياسية التي استنفدت ما لديها وتجاوزها الزمن، فالمرتبكون يتساءلون كيف ستسير الأمور بدونهم إذ اعتادوا على جر العربة زمنا طويلاً، فنقول لهم: استمتعوا بالحياة بشكلها الواسع، فها أنتم أدركتم أيها (الدعاة المخمليون) أسرار المتعة في مصايف تركيا ومنتجعات أوروبا، وذلك خير فالزمن غير الزمن لأسباب كثيرة من أهمها، أن المناورة السياسية لدولة بحجم السعودية تحتاج لياقة عالية، ولا تحتمل (الترهل السياسي) الذي أنتم سببه الأكبر أو نتيجته الطبيعية ـــ لا أعلم ـــ فعندما نجد دولة صغيرة تختطف كل الأدوار بكل المستويات لتجمع المتناقضات، ثم نجد من يصغي لها غافلاً عن رؤية كامل مشهدها السياسي فإننا ندرك أن (الترهل السياسي) يؤدي لانقطاع النفس، ولا محل للركض مع دول العالم القريب قبل البعيد دون لياقة عالية.

لأكون أكثر مباشرة بأسئلة أكثر وضوحاً، لماذا يغض بعض رجال الدين الطرف عن وجود أكبر كنيسة في قطر، ويمتعضون من ندوات ومراكز حوار الأديان التي ترعاها السعودية؟ ببساطة لأنهم سروريون ومن تيار الإخوان المسلمين وسلفيين منتفعين ومتنفعين، وهذه الكنيسة الأكبر تعطي قطر مرونة أكبر في المناورة على مستوى الحريات الدينية أمام العالم بصفتهم ممثلين للإسلام المعتدل، السؤال الثاني: لماذا يغض بعض رجال الدين الطرف عن مشاركة المرأة في قمة الهرم السياسي في قطر، ويتطاولون في القول على السعودية عندما تفتح الباب قليلاً في سبيل تمكين المرأة؟ السؤال الثالث: لماذا تستطيع قطر الجمع بين فتح أول مكتب علاقات مع إسرائيل ودعمها لحماس في نفس الوقت، لنرى بعض رجال الدين يهللون لقطر في سبيل خدمتها للقضية الفلسطينية، وينقمون على السعودية اهتمامها بالممثل الوحيد للقضية الفلسطينية (أمام العالم) والذي يستطيع طرح القضية في مبنى الأمم المتحدة كممثل حصري للقضية (محمود عباس) خليفة المناضل العتيق ياسر عرفات، الإجابة باختصار لأن رجال الدين هؤلاء سياسيون ومسيسون إلى النخاع، وخصومتهم ليست مع الشعب السعودي بل مع (الأسرة الحاكمة السعودية)، والتي لا أستثنيها كأي أسرة سعودية من تعدد التوجهات فيها، فهم أيضاً من الشعب وإليه، الفرق يكمن في رمزيتهم كأسرة عربية أصيلة سليلة ثلاثة قرون من الحكم تناولها التاريخ والمؤرخون بما يؤكد (سموّها الملكي اللائق بها) وبدون هذا (السمو) لن يكون هناك راكب يسير من القطيف وحفر الباطن والجوف وتبوك ونجران والسليل إلى مكة والمدينة لا يمنعه سوى بنزين الطريق أو قيمة التذكرة دون ختم أوراق أو طلب جواز.

جلالة الملك هو الرمز السياسي الجامع لهذا الوطن، وطن كان عليه قراءة المشهد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أسرع من قراءة المترهلين لسقوط جدار برلين، وها نحن في هذا العهد نستعيد لياقتنا السياسية بكل اقتدار، لكني أقولها بصراحة كما أشعر بها دون أن أعيش تفاصيلها، فأنا مجرد (راعي غنم مثقف) أقول: اربطوا حزام الأمان، ولملموا فصفص الطريق والعلب المبعثرة عند أقدامكم، واحرصوا على نظافة اليد، فأنتم شعب يجب أن يدخل سن الرشد، ليتناغم مع معطيات العالم الخارجي، وبقدر تناغمه سيشعر أنه بوجه واحد، سينتهي الترهل على المستوى الحسي بين ما يريده الوطن ويفعله، والفصام على المستوى النفسي بين الداخل والخارج، وستسهل الحركة في كل الميادين، يكفي سنين الرعاية بمعنى الخمول والعجز إلى حد العمى عن رفع اللقمة إلى الفم، اقتصاد الريع انتهى وبدأ اقتصاد الإنتاج، سياسة الوعد بالصبر الطويل في السياسة الخارجية صار لها يد طولى في الوعيد، علينا التفاؤل والثقة بالله، فهذا وطن فيه ما يستحق الحياة (من أجله)، قبل ما يستحق الموت (في سبيله)، أما كلاب الطريق فلنا ما اعتدناه منها (النباح على القافلة).