العلم يصحح نفسه بشكل مستمر، ولهذا التصحيح أدوات عدة، أهمها أن «نقد العلم» يعد جزءا أساسيا في تركيبة المنهج العلمي.

أن يطرح أحدهم فكرة أو نظرية، فنقدها أمرٌ لا بد منه، ولولا هذا النقد لبقيت الأرض إلى اليوم في مركز الكون، ولبقي الإنسان بكامل هيئته محشورا داخل الحيوان المنوي.

لكن الملاحظ -واليوم تحديدا- أنه ورغم استمرارية نقد العلم، إلا أنه لا أحد -من العقلاء- يستدعي النظريات والأفكار القديمة كحجج يعزز بها نقده.

الناقد المتزن العاقل اليوم، لا يقدم نموذج الأرض المجوفة مثلا ليشكك في النظريات الجيولوجية، لأنه يدرك أنه إن فعل فسيضع نفسه موضع سخرية، وهكذا يمكن القول إن المرفوض ليس النقد، إنما تدعيم النقد بالحجج القديمة التي تم دحضها تماما، أو تم تصحيحها بالكامل.

إلا أننا حين نتحدث عن العلم الشرعي عموما، وعلم الحديث تحديدا، فالمسألة تختلف في جزئية أن استدعاء أو تدعيم النقد بالحجج التي تم طرحها سابقا مسألة لا تضع الناقد في موضع سخرية أبدا، هذا لأن كل أو معظم الحجج القديمة ما تزال تحتفظ بقيمتها إلى اليوم، وسبب احتفاظها بقيمتها، أنه لم يتم دحضها أو الإجابة عنها بشكل علمي واضح ومحدد.

لذا، حين يردد علماء الحديث أن فلانا الناقد «لم يأت بجديد»، ففي الحقيقة عبارتهم هذه تدينهم. إنها عبارة عليهم لا لهم، فلو أنهم دحضوا وفنّدوا كل الحجج والطعون التي تم توجيهها لعلم الحديث فِعليّا، لما كانت هنالك حاجة أساسا إلى التكرار، ولأدرك الناقد أنه إن فعل هذا الأمر فسيضع نفسه موضع سخرية، لكنه يفعل بلا حرج!، بل ويتمادى بإضافة حجج جديدة ستواجه -غالبا- بالإعراض والتجاهل كليهما، وأحيانا التسفيه والاستصغار.

عموما، ليس بالضرورة أن يكون الناقد مدلسا أو مستشرقا أو عابدا هواه، شيطانيّ النزعة، وأيضا ليس بالضرورة أن يكون الناقد -تحديدا اليوم- عالما متمكنا ملتزما بمعايير علماء الحديث.

فاليوم، دخل رجل الشارع البسيط على الخط، أصبح الإنسان من العامة قادرا على الوصول إلى المعلومة بسهولة، وقادرا على أن يتحصل من المعرفة ما يلزم لأن يربكه تماما، والارتباك هنا ليس بسبب المعرفة فقط، إنما بسبب اكتشافه أن أجزاء من هذه المعرفة تخالف الواقع الفوضوي تماما، بينما أجزاء أخرى منها أسهمت في تشكيل هذا الواقع الفوضوي! ومثل هذا الارتباك، من الطبيعي أن يولّد لدى الإنسان البسيط كثيرا من الأسئلة على شاكلة:

كم عدد الأحاديث الصحيحة بالضبط؟، قالوا إنها سبعمئة ألف، وقالوا بل مئتي ألف، لا بل مئة، ثم قالوا إنها أربعة عشر ألفا، فعارضهم آخرون بالقول إنها لا تتجاوز الأربعة آلاف وأربعمئة! كم عدد الأحاديث الصحيحة بالضبط؟.

فلو أن عدد سور القرآن أو آياته أمرٌ مبهم لكان هذا سببا كافيا لخلق حالة تخبط شديدة، ثم لماذا تتم تسمية الموضوع والضعيف والمكذوب بـ«الحديث»؟، فالقرآن متماسك ومحفوظ لأنه ببساطة قرآن، لا توجد فيه آية ضعيفة أو سورة موضوعة، إلا أن مسمى «حديث» المفترض أن يكون من قول نبي الله وحده، إلا أننا نجده مصطلحا يُطلق على كل هرج وخاطرة، وكل ما سُمي حديثا -بغض النظر عن تصنيفه- فله تأثيره في تشكيل أفكار وعقائد المسلمين، بل وتتم عليه بناء أحكام فقهية، ثم ماذا عن الأحكام الفقهية التي تم بناؤها على أحاديث صحيحة تم تضعيفها لاحقا؟، وماذا عن الأحكام الفقهية التي يتم بناؤها اليوم إن تم تضعيفها مستقبلا؟.

وأهم سؤال في هذا الجانب: لماذا نقد السند مقدمٌ على نقد المتن؟!، بل لماذا من الأساس يتم التعامل مع أحوال الرواة على أنه المعيار الأساسي للتصنيف؟.

فإحدى المغالطات المنطقية، أن يتم قبول عبارة أو رفضها بناءً على شخصية وصفات قائلها، لا على استحقاقها ذاتيا للرفض والقبول «طالما فلان مشهور بالكذب، إذًا عبارته هذه بالضرورة خاطئة». لو صح هذا المعيار لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- متحدثا عن الشيطان بكل صفاته الرديئة «صدقك وهو كذوب» أي: يا أبا هريرة رغم أن الشيطان كذوب بطبعه، إلا أن عبارته هذه صحيحة.

من هنا، ندرك أن صفات وطبائع القائل أبدا ليست معيارا يتحدد به قبول أو رفض القول، لكنها في علم الحديث معيار أساسي!.

فماذا عن نقد المتن؟ صحيح أن «نقد المتن» من أهم الأدوات في علم الحديث، وصحيح أن هنالك مجهودات جبارة قام بها علماء الحديث والمنشغلون به، لكن الصحيح أيضا أن العملية برمتها تعاني من علتين رئيسيتين: الأولى -كوجهة نظر- أنها عملية انتقائية، أي أن هنالك انتقاء للمتن محل النقد، وكأن الهدف هنا هو تجنب مصادمة السائد قدر المستطاع، أو ربما هي سباحة مع التيار لا أكثر.

أما العلة الأخرى: أنها عملية نخبوية بامتياز، هي عملٌ خاص بدائرة العلماء الذين تتحقق فيهم شروط محددة وضعها علماء الحديث أنفسهم!.

إن هذه النخبوية -ورغم إقرارنا بأن لها ثمارا عظيمة- إلا أنها ثمار معلقة ولا تصل إلى الأرض أبدا، وربما لهذا ما يزال المتطرف يجد له على الأرض أحاديث صحيحة، فيستند إليها، وينطلق في تطرفه بكل أريحية.