ما الذي بعد داعش؟ سؤال قد ينشغل الكثير في الإجابة عنه بالدخول في التفاصيل الطائفية وعبارات إنشائية مشغولة بالتبرير لجرائم داعش بوجود الحشد الشعبي، أو العكس، ولكن للإجابة العميقة على سؤال ما الذي بعد داعش؟ سأقفز على حدث يمكن استثمار إسقاطاته على واقعنا المعاصر للإجابة عن السؤال بشكل استراتيجي يحاول قراءة واقع المنطقة.

سنحاول استعادة محمد علي بصفته الشخصية الطموحة لا بصفته حاكماً تقليدياً لمصر ما بين (1805/‏ 1848) عندما قرأ واقع الدولة العثمانية وبداية الضعف الحاصل فاستبق سقوطها بمد نفوذه إلى عموم بلاد الشام من خلال 25 ألف جندي، وفي تفاصيل مد النفوذ هذه تكمن تقاطعات واقعنا الحالي بعد خلع القفاز المسمى (الطائفية) عن اليد العارية في الصراع الدولي، فالقفازات ضرورية في كل الألعاب الإقليمية من قفاز الدين إلى قفاز حقوق الإنسان والديموقراطية، وكم من لعاب سال من بعض الدول بالإشارة الأولى لسقوط النظام العربي القديم عندما رأوا بريمر رئيساً مؤقتاً لإحدى الدول العربية.

الطائفية سلاح أيديولوجي نشأت عليه بعض دول المنطقة واستخدمه البعض الآخر من دول المنطقة، والمراقب يجد أن الدول العظمى تحولت إلى مجموعة من رجال الأعمال المقامرين في حلبة (المشرق العربي)، يشرفون على حكم المباراة الذي (يعرب عن قلقه الدائم) مع كل ضربة موجعة يراها، إنها حلبة من الملاكمة الحرة، الضرب تحت الحزام ممنوع بغير إذن، استخدام الأرجل ممنوع بغير إذن، لتبقى دول المنطقة في صراع محدد بإطار الوجه وأضلاع الصدر، ينزف الدم من الفم لا يهم، ينكسر ضلع هنا أو هناك لا يهم، أحيانا يسمح لأحد الخصوم باستخدام الخوذة الواقية إلى حين ثم تنزع من على رأسه وتعطى للخصم الآخر، ثم نلاحظ فوق كل هذه الفظاعة جرس الجولات يرن دائماً عندما يبدأ أحد المتصارعين في الحصول على الضربة القاضية أو ما يشبهها ضد خصمه، إنها ملاكمة حرة لا تنتمي إلى قوانين المصارعة الرومانية بموت أحد المتصارعين، ولا تنتمي إلى الملاكمة الحرة الحديثة التي تنتهي بالضربة القاضية أو عدد النقاط، البشع في هذه المصارعة ترك الأطراف تنزف، ولا أحد يريد رمي المنديل الأبيض وسط الحلبة، ورجال الأعمال لا يزيدون على أن يرفعوا سعر المقامرة على أحد الأطراف دون الآخر والعكس.

نعود لمحمد علي عندما مد نفوذه بطريقة ارتجالية لم يقرأ فيها رغبات الدول العظمى آنذاك وعلى رأسها بريطانيا، فتورطت الدولة العثمانية باتفاقيات مع روسيا كي تنقذ نفسها من طموحات مصر ممثلة في محمد علي الذي وصل إلى الأناضول، فكأن النزاع بين (شرق) تمثله روسيا والدولة العثمانية الضعيفة، و(غرب) تمثله بريطانيا ومن معها.

في الحقيقة كان طموح محمد علي هو في حماية العمق الاستراتيجي لمصر فالحد الاستراتيجي لها كما يقول كلوت بك الفرنسي (1793ـــ 1868): (لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلة إلا بإعطائها الحدود السورية لأن حدودها ليست في السويس بل في طوروس)، حيث إن سائر الغزوات على مصر كما يقول جاءت عن طريق سورية كغزوة الفرس، في عهد قمبيز وغزوة الإسكندر والفتح الإسلامي وغزوتي الأيوبيين والأتراك.

تواضع محمد علي وتراجع فعلاً لما يمكن له أن يرضى به طوعاً أو كرهاً، وهي حدود مصر فقط، وقد اتجهت لمحمد علي كمثال قبل قرن ونصف تقريباً لأتجنب الألوان الفاقعة لصراع النفوذ الذي كان عند سقوط الخلافة في الحرب العالمية الأولى بين زعماء الثورات العربية ضد العثمانيين.

القوى الثابتة بعد سقوط داعش في المنطقة هي حسب الترتيب من الشرق (إيران والسعودية وتركيا) ويجب على السعودية أن تحافظ على توازنها في المشرق العربي بوجود الدولة الرابعة (مصر)، فمصر لم يحن دورها الكبير بعد، خصوصاً في بلاد الشام، ويجب أن تمنح هذا الدور كحاضنة لبقايا (النظام العربي) أو ما يمكن إنشاؤه وترميمه على أنقاض هذا النظام ونكتشفه في قابل الأيام بمسميات جديدة، مع توجيه النفوذ الإقليمي وصراعاته باتجاه المصالح المتبادلة، ببراغماتية أعلى تتجاوز (احتقان اللاجدوى) مما هو موجود حالياً بين بعض هذه الدول الأربع، ولنفعل كما تفعل على الأقل إيران وتركيا في إدارة الصراع بينهما بنفعية ومصلحية عالية.

أقول بقايا النظام العربي لأن ما بعد داعش سيفتح شهية الأكراد التي لم يحسم موضوعها حتى الآن، وهي الملف الموجع لكل من إيران والعراق وتركيا وسورية، ويبقى علينا كمثقفين (عرب) ألا نزايد على الساسة العرب ، ولنحاول الوقوف بالمدرج ومشاهدة النشاط الكردي وكيفية إدارة ملفاته من قبل الدول العظمى، وما هي إمكانيات إيران وتركيا في إدارة هذا الملف، أما العراق وسورية فكل منهما مكسور الأضلاع إلا من بقايا إرادة عربية لا تجدي في رجائها موعظة أخلاقية باسم الدين أو القومية، بقدر ما تجدي لغة المصلحة البينية في بقاء الخريطة القديمة للدول القومية الناشئة بعد الاستعمار (سايكس بيكو).

خطوط التجارة البحرية والتابلاين للنفط والغاز، وما قبل ذلك وبعده من صراع تجاري بين الصين وأميركا له انعكاساته التي تستثمرها روسيا باقتدار، فما الذي بقي من الطائفية وداعش؟ لم يبق شيء، فقد انفض المولد بلا حمص، سوى بذور طائفية ستحتفظ بها الدول العظمى في جعبتها، أما إسرائيل فلم تعرف (القاعدة وداعش) طريقهما يوماً واحداً ولو من باب منافسة (الفدائيين) في التاريخ اليساري، بل ربما نحن قاب قوسين أو أدنى من سلام جديد يطرح مشروعاً مقلوباً لما كنا نسميه (الأرض مقابل السلام)، لأننا نرى البعض يفكر بطريقة (سلامنا من سلام إسرائيل)، وهذا ليس من فكر المؤامرة في شيء، فإسرائيل ليست بحاجة للتآمر، فما نفعله ببعضنا أشد مما يمكن أن يفكر به أعداؤنا ضدنا، لكنه شعور الهزيمة والخيبة وخوف الغرق الذي يجعل البعض يحاول أن يتعلق بقشة حتى ولو كانت إسرائيل، التي نسينا مع الطائفية اسمها القديم في إعلامنا العربي، كنَّا نسميها ـــ يا أبنائي ـــ قبل سنين مضت (الكيان الصهيوني) لأننا لا نكره اليهود لكننا نكره الصهاينة، ومن لا يعرف الفرق فليمضغ علك السلام النتن بعيداً عن أنوفنا.