يتكون الهيكل المؤسسي للدولة من مجموعة من القطاعات الرسمية المسؤولة عن أداء وتنفيذ جملة أهداف الدولة التنموية ورؤاها الاستراتيجية التي وضعتها كميثاق وطني تسعى لتنفيذه، بما يخدم مصالحها الوطنية بداية والدولية تباعا، ويتم ذلك من خلال الخطط التنموية والأهداف المقصودة لكل قطاع فيها، وبما يخدمه من آليات إجرائية وبرامج تنفيذية مختلفة، تمثل في مجموعها مستهدفات الدولة من كافة القطاعات، وتجسد تطلعاتها ورؤاها الاستراتيجية في إنجاز ملموس يشمل كافة القطاعات، والذي يتبلور ويترجم في واقع تنموي متناغم ومتسق مع بعضه البعض لكافة المقدرات الوطنية البشرية والمادية.

 وحيث إنه سبق توضيح مفهوم السياسة السكانية في مقال سابق، فإننا هنا نوضح أهمية وثيقة السياسة السكانية التي تعتبر الوعاء الرسمي الذي يعكس أو يبلور التوجه الوطني وغايات الدولة وسياستها المستهدفة نحو السكان وتنميتهم، بما يتوافق مع رؤية الدولة الاستراتيجية المرسومة، ومستهدفاتها الوطنية، ومواردها المتاحة في إطار مصالحها بصفة عامة؛ وبما يتواءم مع خصائص السكان الديموغرافية والاجتماعية، وبما يخدم تحقيق أهداف الدولة الاقتصادية وتطلعاتها التنموية لمواردها البشرية، ويتم تحديث تلك الوثيقة ومراجعتها من فترة لأخرى تبعًا للتغير الذي يطرأ على الخصائص السكانية والرؤى الاستراتيجية وفق المتغيرات من جهة؛ وما تحتاجه من برامج تنموية مستهدفة تتواءم مع تلك الخصائص السكانية المتجددة، سواء أكانت تلك الخصائص ديموغرافية أو اجتماعية واقتصادية مختلفة؛ وبذلك تكون وثيقة السياسة السكانية بما تتضمنه من رسالة وغايات وأهداف وآليات إجرائية وجهات متابعة، تشمل كافة القطاعات ذات الصلة بالإنسان وتنميته في الدولة، بمثابة السجل الموثق للمشروع التنموي المستهدف الذي يبلور جميع ما يتصل بالسكان والتنمية بناء على جميع المحاور المرصودة، وإن احتواءها مجتمعة في وثيقة أو وعاء موحد يساهم في التنسيق والمواءمة بين الآليات والإجراءات المنفذة في سائر القطاعات المختلفة المعنية بذلك، كما يتيح متابعتها بحيث تكون متناغمة ومتناسقة فيما بينها كحلقات متكاملة، بما يخدم تحقيق الأهداف المقصودة والرؤية المستهدفة.

ومن جهة أخرى فإن عدم وجود «وثيقة سياسة سكانية» تحتوي الغايات الوطنية والأهداف التنموية وما يتبعها من إجراءات تنفيذية ومتابعة لكافة القطاعات المعنية بالسكان والتنمية، يساهم إلى حد كبير في تعطيل تنفيذ كثير من البرامج، كما يحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من الخطط التنموية لكل قطاع، هذا بالإضافة إلى أن عدم التنسيق ما بين القطاعات في تنفيذ البرامج والإجراءات بما يتواءم ويتناسق مع بعضها البعض في حينه، ومع واقع الخصائص السكانية؛ فإنه يقلل من فائدتها إن لم يجعلها جهودا وأموالا مهدرة دون عائد استثماري، ناهيك عن التداعيات السلبية التي تترتب على غياب ذلك التنسيق والتوافق ما بين القطاعات في تحقيق أهداف يُعول عليها في معالجة وحل كثير من الإشكاليات التي تلحق بالقطاعات المختلفة وبمواردنا البشرية.

 وحتى لا يكون حديثنا تنظيريا وجدليا فإننا نحتاج إلى أمثلة لتوضيح ذلك، فقد تضمنت بيانات الإحصاءات العامة لتعداد السكان 2004 بيانات التغير النسبي بين تعدادي 1992 و 2004، والذي أشار إلى تناقص نسبة السكان السعوديين (أقل من 15 سنة) من (49.2 %) في عام 1992 إلى (39.9 %) عام 2004م، وبمستوى انخفاض سنوي يقدر بـ(1.6 %) بينما زادت نسبة السكان السعوديين من (15- 64 سنة) من (47.5 %) عام 1992 إلى (56.6 %) عام 2004، وبمتوسط زيادة سنوية مماثل لمعدله المنخفض في الفئة السابقة وهو (1.6 %)، وذلك يشير إلى مؤشرات ديموغرافية هامة لها أبعادها الديموغرافية من حيث الاتجاه نحو انخفاض الخصوبة لأسباب اجتماعية مختلفة، منها التعليم وتأخر سن الزواج وعمل المرأة وغيره، كما أن لها أبعاد تنموية لا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند كافة ما تحتاجه تلك الفئة من القطاعات المختلفة كالتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية (الأسرة والطفولة) وغيره، أما الزيادة في نسبة الفئة التالية (15- 64 سنة) فهي تحمل في طياتها مسؤوليات جمًة تتطلب جهودا تنموية مختلفة، تتناسب مع تلك الشريحة العمرية ذات الصلة بقطاع التعليم والتدريب المهني أو العمل أو الصحة أو الإسكان أو رعاية الشباب وغيره، إذ إن ذلك يشير إلى ارتفاع نسبة الشباب القادمين من طالبي الزواج والباحثين عن فرص عمل والمحتاجين لرعاية ووقاية صحية وغيره، ومساكن ميسرة، ومراكز وبرامج للشباب وغيره، وما يتطلبه ذلك جميعه من جهود ومنشآت ومشاريع وبرامج تتوافق مع تلك الخصائص الديموغرافية للسكان التي تضم فئة كبيرة من الشباب، كما أن الزيادة في نسبة الشريحة العمرية (64 سنة وما فوق) وبمعدل (0.6 %) سنوياً، بعد أن كانت (3.3 %) في 1992م أصبحت (3.6 %) في 2004، فإن لها متطلباتها المختلفة من القطاعات ذات الصلة بالتنمية الاجتماعية وما يتعلق بها من برامج ورعاية ومنشآت، ومن الصحة وما تحتاجه تلك الشريحة من اهتمام صحي مضاعف، وما يستدعيه ذلك من تكاليف ومستلزمات أكثر أهمية وضرورة.

ومن جهة أخرى فإن بيانات الإحصاءات العامة للعام 2004 تشير إلى أن هناك زيادة في نسبة السكان غير السعوديين تصل إلى (486.3 %) وذلك مقارنة بتعداد (1974) وكان نتيجة لزيادة تدفق العمالة الأجنبية للمساهمة في مشاريع التنمية التي تطلبتها ظروف التنمية، والذي ترتب عليه انخفاض في نسبة السكان السعوديين من (72.6 %) عام 2004، إلى (68,9 %) عام 2010، بحيث شكل غير السعوديين نسبة (31.1 %) من السكان عام 2010، في حين تشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء في تقديراتها الأولية لمنتصف عام 2017 والمبنية على المسح الديموغرافي 2016 بأن نسبة السكان غير السعوديين (37.36 %) بينما انخفضت نسبة السكان السعوديين إلى (62.63 %) من جملة سكان المملكة لمنتصف عام 2017.

 وبذلك فإن البيانات الإحصائية الوطنية تؤكد أن التحديات التنموية المختلفة التي تواجهنا اليوم لم تكن مُفاجِئة، ولم تظهر ما بين ليلة وضحاها إنما ظهرت بوادرها بقوة منذ التعداد السكاني 2004 بل وقبله، وإنه على الرغم مما تضمنته خططنا التنموية لسنوات من معالجة واستيعاب لتلك المتغيرات السكانية وحاجاتها التنموية وما يتصل بها من برامج ومشاريع استراتيجية هامة، فإنها لم تترجم لواقع تنموي يوازي مضمون الخطط والطموح الوطني وتطلعات المواطنين، كتنويع القاعدة الاقتصادية والاهتمام بالتعليم والتدريب والارتقاء بالخدمات الصحية وتطوير أداء قطاعات التنمية الاجتماعية ورعاية الشباب، وتصحيح مسار وزارة العمل بما تتضمنه لوائحها من تشريعات وقوانين، بما يخدم الحد من العمالة الوافدة وتقنين وجودها واستقدامها من جهة، وبما يساهم في توطين الوظائف من جهة أخرى، وبما يزيد فعلياً من نسبة مساهمة المرأة في سوق العمل بما يتناسب مع مستوى تأهيلها وتعليمها، وبما يثمر عن الاستفادة من مواردنا البشرية المعطلة بنوعيها (ذكورا وإناثاً)، مما يحد من البطالة، وغير ذلك من البرامج ذات الصلة بقطاعات السكان والتنمية بصفة العموم.

 ومما لا شك فيه أن وجود وثيقة للسياسة السكانية الوطنية من شأنه أن يعالج الكثير من التحديات التنموية التي تواجهنا لكونها تؤطر الجهود المطلوبة من كافة القطاعات ذات الصلة في سجل رسمي خاص بها، ومُسمى معني بها، وجهة مسؤولة ومتابعة لإنجازاتها في جميع مضمونها، وما يتعلق بها من أهداف وآليات إجرائية وتنسيق وجهات متابعة، وبما يقنن إنجازاتها وفق فترات زمنية محددة، وبذلك يمكننا أن نحقق بإذن الله قفزات تنموية في كافة مقدراتنا الوطنية البشرية والمادية التي أولتها القيادة أيما اهتمام منذ عقود، والتي تجدد مع الرؤية الوطنية الطموحة.