أن تختلف مع آخر فهذا أمر طبيعي يحدث، لكن المهم في ذلك يكمن في فهم جوهر الاختلاف وماهيته والأهداف التي من أجلها تختلف فيها مع الآخر. وقد حفل التاريخ بكثير من قصص الاختلاف بين البشر على مختلف أفكارهم وتوجهاتهم، وأنتجت تلك الاختلافات في وجهات النظر أو الرؤية أو تقدير الأعمال، نماذج جديدة ترجمت واقعا جديدا لما بنيت عليه تلك الاختلافات.

لكن الاختلاف الذي كرست له الصحوة ذات غفوة وعي وثقافة وعلم لا ينتمي إلى أي من أنواع الاختلاف التي يباركها الفكر الإنساني المستنير، فقد أسست تلك الغفوة لتأصيل مبدأ «إن لم تكن معي فأنت ضدي» من خلال اتكائها على الدين، بحيث تضع المختلف معها في معسكر المخالف، وهي فكرة على الرغم من قدمها في الفكر الكهنوتي، إلا أنها ما تزال ناجحة في المجتمعات قليلة الانفتاح على الحضارات الأخرى! لا أعرف حقيقة من أين جاءت لهم جرأة القدرة على محاكمة الآخرين ومخاطبتهم نيابة عن خالقهم، ثم من أقنعهم أصلا بأن ذلك من صلاحياتهم، وأن ذلك من المهام الموكلة إليهم من الله تعالى؟! حين تختلف مع أحدهم يبادرك بـ«اتق الله، بماذا ستقابله حين تقف بين يديه»!، وهذا في الواقع تدليس عظيم يلعب على وتر العاطفة الدينية، إذ الرد المناسب المفترض أن يوجه إلى أمثالهم مباشرة هو مبادرتهم بسؤال مقابل: وما أدراك أن موقفي سيكون سيئا أمام الله تعالى؟! أتذكر من زمن الصحوة لا أعاده الله من زمن، قصة حدثت لأحد أصدقائي المقربين، الذي تربطني به علاقة وطيدة جدا منذ أيام مراحل الدراسة، وقد عاد إلى رشده بعد أن دمر تاريخه وذكرياته بتوجيهات الفكر الصحوي القبيح، ولو لم يكن بلا بطاقة هوية وجواز سفر، لكان اليوم من ضمن محتويات محرقة أفغانستان دون شك.

قصة أولى: قابلته مؤخرا عن طريق المصادفة، وتحدثنا على عجالة، فكان كلما سرد في حديثه ذكريات تلك الأيام، حرك رأسه مطرقا يمنة ويسرة في لحظة تعبير مؤلمة عن كل ما فقده من أصدقاء وذكريات التهمتها نيران فتاوى مشايخ الصحوة.

لقد أوشك صديقي هذا على فقدان عائلته بسبب ما كانوا يختلفون معه في أمره من شؤون الحياة والدين، فما كان منه إلا أن رماهم بالضلال والكفر والدياثة وقلة الرجولة والحياء وعدم الخوف من الله، وكل ما من شأنه إقصاؤهم خارج الإسلام!! حتى إنه خطب فيهم يوما في المسجد عقب إحدى صلوات الجمعة، وقد حضرت ذلك بنفسي.

قصة ثانية: حينما كنت أدرس أبجديات البرمجة والحاسب الآلي في مدينة أبها أوائل التسعينات الميلادية وتحديدا في عام 1991، التقيت بكثير من المنتمين إلى فكر الصحوة، وقد كانوا لا يخرجون إلا في جماعات، ونادرا ما كنت أشاهدهم فرادى، فقد كان ذلك أحد أهم المبادئ التي تم تلقينهم إياها.

تعرفت إلى عدد منهم بحكم السكن ومكان وزمالة الدراسة، لكننا لم نكن نجتمع إلا في أوقات متباعدة جدا، ما عدا من كانوا من نفس منطقتي من الدارسين، وجيران الشقة التي كنت أسكنها بحي شمسان، كان معي زملاء سكن ليس لهم ميول أو اهتمام بمنهج الصحوة، وهو أحد أهم العوامل التي ساعدتني على تجنب الوقوع في فخها وبراثنها.

حين كنت أذهب للعب كرة القدم في إحدى المساحات الضيقة في أبها –نسيت اسم المكان-، كانوا يرحبون بي للعب معهم وعقب الحصة يصرون على جلوسي معهم في حلقة قالوا إنها (للذكر) قبل صلاة المغرب، وحين رفضت البقاء معهم في اليوم الأول، رفضوا مشاركتي اللعب معهم في الأيام اللاحقة! فإما أن أرضخ لما يريدون أو لست شخصا مرغوبا فيه.! فهمت ذلك ولم أعد أذهب إلى ذلك الملعب القريب.

قصص كثيرة أحملها في ذاكرتي عن تلك الفترة، والمبدأ ذاته يتكرر على نحو ما، والاختلاف في الطباع والرغبات بيننا، أظهر تحول الاختلاف إلى خلاف.

هكذا صنعت الصحوة نماذج أسلحتها التي تمشي على قدمين، وأنتجت نسخا من أدوات طاعتها العمياء، وهكذا يرمي أعضاؤها –لتشتيت انتباه المجتمع عن انتهازيتها- اللوم على تيارات فكرية وهمية، يدّعون سعيها للانقضاض على المجتمع واختطافه، وهذا السلوك طبيعي عند من يمارس شيئا يخشى من انكشافه، وتعبير واضح لقول العرب «كاد المريب أن يقول خذوني»