عالم الأشياء كما عبر «مالك بن نبي» يمكن توضيحه بأنه العالم الذي يطوف فيه الناس حول الأشياء المادية الملموسة والمحسوسة، كالطواف حول الأصنام وعبادة النجوم وتبجيل الأشخاص بحسب كمية الأشياء المادية التي يمتلكونها، وأيضاً تقديس اللغة والاعتزاز بالقبيلة واللون والنسب وكل ما يمكن الإشارة إليه مباشرة، إن عالم الأشياء هو العالم الذي كان فيه «عمر بن الخطاب» يأكل معبوده المصنوع من تمر، وأكل عمر لصنم التمر يوضح مدى بؤس الطواف حول الأشياء، لهذا أرسل الله النبي –عليه الصلاة والسلام- برسالته كي ينتشل العرب الغارقين في هذا العالم المادي التعيس، كي يخرج بهم من ظلمات الطواف حول المحسوسات إلى نور اعتناق الأفكار والأهداف والقضايا السامية.

جاء النبي محمد –عليه الصلاة والسلام- إلى العرب بإسلام يصون حياة الإنسان وكرامته وحقوقه وحريته، إسلام لا إكراه فيه على الدين لأن الإكراه حينها سيحول الدين إلى شيء ضمن الأشياء، وهذا ما نهى الله عنه! جاء النبي بإسلام لو أقسم فيه الأشعث الأغبر على الله لأبره لأن قيمة الإنسان هنا تتحدد بالتقوى والإخلاص والأفكار والقيم لا بالعمامة والعباءة واللحية والسواك، لا بعدد ما يحفظ المرء من آيات وأحاديث وأذكار وأدعية، إن العبرة في الإسلام الذي جاء به النبي ليست بما يمكن قياسه بالمسطرة وحسابه بالأرقام، إنما بما يعمله الإنسان وما يحمله من قيم ومبادئ.

لقد كان العرب في الجاهلية غارقين في عالم الأشياء، وقد أبدعوا في عالمهم ذاك حكماً وقصائد وبطولات، كانوا برغم أشيائهم أهل كرم وشجاعة وفروسية وفراسة والكثير من الصفات التي لم تحرضهم أبداً على بناء حضارة أو تأسيس دولة قادرة أن تزاحم الأمم، أبداً لم تكن تنقصهم الأدوات ولا الصفات ولا القدرات، إنما كانوا يفتقدون الإيمان بقضية وهدف أبعد من حدود الأشياء التي ربطوا أنفسهم بها وكيفوا حياتهم على وجودها، وهكذا مضى الصحابة ومن جاء بعدهم حاملين أفكاراً بنوا بها حضارة وشيدوا معارف وعلوماً شتى، إلى أن جاء الوقت الذي عاد فيه الطواف حول كل الأشياء المادية من جديد.

لقد تحول الإسلام بالتدريج إلى «إسلام أشياء»، حيث التراث الذي تركه السلف بات مع الوقت «شيئاً» يجب الاكتفاء به دون الإضافة إليه إلا بما لا يخل بمعناه.

المفارقة أن إسلام السلف لو كان إسلام أشياء فعلا، لما تركوا كل هذا الإرث الذي يتم تحويله إلى مجرد شيء يساعدهم على تشييء الإسلام أكثر!، وطالما هذا التراث في إسلام الأشياء شيء بدوره فمن الطبيعي أن تكون الأداة الرئيسية هنا هي الحفظ والترديد والعنعنة، أما إعمال العقل مذموماً في إسلام الأشياء لا خوفاً على الإسلام، إنما خوفاً من ضياع كل الأشياء المادية التي تتحدد بها ملامح وطبيعة هذا الإسلام، وتتحدد بها أيضاً مكانة المسلم الذي كلما زاد تملكاً للأشياء المادية ارتقى في الإسلام درجة وربما درجات، وطالما يرتقي درجاتٍ في الجنة بطرق مادية بحتة فسيضمن المال والمكانة الاجتماعية في الدنيا.

إن الإنسان في إسلام الأشياء يُعد شيئاً ضمن الأشياء بدوره، لهذا نجد من الفقهاء من لا يرى أي بأس في إراقة دم الإنسان حفاظاً على الإسلام! إن المرتد في إسلام الأشياء ليس المتطرف سواء الدواعش أو الميليشيات الشيعية، إنما المرتد هو «فرج فودة» و«علي شريعتي» لأن الفكرة عند فقهاء إسلام الأشياء هي الخطر الحقيقي وربما الأوحد كونها قادرة على إزاحة كل الأشياء المادية التي يطاف حولها وتتحقق بها كل المكتسبات، بينما التطرف فإنه يحافظ على إبقاء الأشياء في هذا الإسلام على ما هي عليه، بل إن الجماعات المتطرفة ليست إلا ثمرة من ثمار عملية تشييء الإسلام!، لهذا نجد من العلماء من يتردد وربما يمتنع عن تكفير المتطرفين الساديين، ثم يبادر الآخرين مسرعاً إلى تكفير المفكرين.

إن الفكرة تنهى عن الاكتفاء بالطواف حول الأشياء المادية، والعقل يحرض الإنسان أن يرتقي على كل الأشياء، لهذا يأتي وأد الفكرة وذم العقل في إسلام الأشياء من أوجب الواجبات، لهذا قد يُقتل الإنسان على الفكرة، ويسجن تعزيراً على رأي أعمل فيه عقله، فما الحل؟!، الحل في الكف عن عملية تشييء الإسلام أكثر، في كف أذى المشيئين، فالإسلام ليس ثوباً وجلباباً ومسبحة، ليس عمامة وعباءة ومبخرة، الإسلام الذي جاء به النبي نزف لأجله «خالد» دما، وجاع لأجله «الفاروق» عاماً، وصرخ فيه «بلال» مدافعاً: أحدٌ أحد، وبهذا نال الصحابة مكانتهم في الإسلام ومنزلتهم في الجنة، بينما في إسلام الأشياء فيبشرنا الداعية مبتسماً بذكر معين إن ردده المسلم بكيفية محددة لمدة دقيقة ونصف على الأكثر فسيزاحم «خالد وبلال والفاروق» في الجنة!، مثل هذا الذِكر المحسوب بالأرقام والدقائق هو شيء ضمن الأشياء التي إن التزم بها المسلم نال شيئاً أو بضعة أشياءً في الجنة، وليست العلة في الذكر إنما في تشييء الذكر، كما أن الخلل ليس في الإسلام إنما في مجموعة الأشياء المادية التي بات لزاماً على المسلم اليوم أن يطوف حولها بلا تفكير.