هل يمكن أن يصاب المثقف بالعمى وفقد الذاكرة؟ نعم إذا قرر العيش في (بلد العميان) ــ التي حكى عنها هربرت جورج ويلز ــ ورضي أن يشرب من بئر النسيان، عندها فلن تكون حياته كمثقف سوى (ثرثرة فوق النيل) في رواية نجيب محفوظ.

ليس مطلوباً من المثقف أن يقضي حياته كسيزيف مع صخرته، وقد تجاوز الأربعين من العمر، ولكن لا أقل من أن يكون (بروميثيوس) ليمنح الحكمة والنظرة البعيدة للناس حتى ولو لم يعجب (زيوس)، فالمثقف قادر بقدر ما يمتلك من (سلطة المعرفة) ليواجه بها أعتى العتاة من عشاق (معرفة السلطة).

تتألم كثيراً لحكاية ذلك القروي الذي اجتمع الناس عليه يلومونه لأنه أدخل إلى بيته (الدش) قبل عقدين من الزمان، ثم يفاجئهم بكلمة خارجة عن فهم القرية وقاموس القبيلة، إذ نطق بالخطأ قائلاً: (أرجوكم اسمحوا لبيتي أن يفتح له نافذة على العالم)، لتنطلق الكلمات الساخرة من كل أنحاء القرية، وبعد سنوات لحق به الجميع بلا استثناء حتى إمام القرية.

تتألم أكثر للمثقف تكبر كلماته دون أن يلتفت أنه مع تقادم الزمن قد أصبح قزماً أمامها، لقد كبرت كلماته دون أن تكبر مصداقيته أمامها، كان يظن الأمر مجرد (كلام في كلام)، فلماذا يسأل الآن عن عدم الجدوى، ليس مطلوباً منه أن يكون (شهيد الكلمات)، بقدر ما هو شاهدٌ لها، لا شاهدة على كذبه وتنفجه الفارغ.

المثقف شوكة في حلق التاريخ، ذلك التاريخ الذي يكتبه المنتصر، كأنما السماء أرادت، وكأنما الأرض استجابت، وإن هي إلا الحرب (كر وفر، مكر وخديعة)، فعن أي ملكوت نحكي، ومعارك البشر عند (الإنسانيين) نصر بطعم الهزيمة، فالدماء لبني آدم أكان القاتل قابيل أم هابيل!؟!.

قد يكون المثقف وردة حمقاء تصر أن تزهر قبل موسمها، لا تعترف بقانون الزمان والمكان، فإن صادفت ربيعها كانت البهاء والجمال والعبير، وإلا ستذوي وتموت، وما أكثر الذاوين الأموات، باستثناء العبقرية، فليس لها قانون سوى نفسها.

يغترف المثقف اللغة من ماء الصدقة والسابلة، ثم يتمضمض بها ويمجها، فليست اللغة في ناصية الشارع العمومي سوى (عابرون في كلام عابر)، فما يروي الجسد غير ما يروي الروح، فيحفر أكثر في أرض اللغة بحثاً عن نبع ينتظر جرأة الضربة الأولى على بطن الصخرة البكر، فلا يتذكر سوى محمد الثبيتي في (تغريبة القوافل والمطر)، فيشرب ويشرب حتى ينام، لعله يفيق على وطن يتجاوز (بلد العميان)، فيا لبؤس الجباه مفطورة على مس التراب، كي تصل لأعنان السماء، والعالم من حولها عبر تلسكوباته ومراصده العلمية يحدد لها مواعيد الكسوف والخسوف بالساعة والدقيقة، قبل موعدها بسنوات، ورغم هذا لم تشعر بقلق السؤال، بل تاهت في مواعيد الضراعة، فكيف للمثقف أن ينهض بالعقل ولا عقل بين من يرى الظن في سد الذرائع مقدم على التجريب في جلب المصالح، وكيف ينهض باللغة واللغة يحرسها الناظمون باسم الأكاديمية نيابة عن الشعراء باسم الموهبة، فعن أي قصيدة نحكي، وعن أي شاعر نروي، والمغنى (شيله)، والملحن (درباوي).

من يؤمن بلسان الإنسان لا يعجزه التوليد، ومن يؤمن باللغة كعرق مقدس سام يتعثر في أقرب حفرة من حفر الفيلولوجيا، لتراه يقفز في محاضراته على هذه الحفر بالوعظ عن الموضوعية، ليتحول دون أن يشعر من باحث أكاديمي إلى حالة نموذجية تستحق الدراسة الأنثربولوجية للترافعات الميثولوجية لدى الشعوب البدائية، بينما لو تفكَّر لأدرك أن حياة اللغة في التداول، ومقتلها في محاولة التقعيد المقدس، فالخلود اللغوي يكون لما يفهمه الناس تداولاً، لا لما يتداولونه بحثاً عن الفهم.

يموت المثقف ولم تمت أسئلته، قلقه، حيرته، ويموت الناس مطمئنين بلا قلق ولا حيرة ولا سؤال، كيف للأعمى أن ينشغل بسؤال اللون، وللأصم بسؤال اللحن، وللأخشم بسؤال الأريج، وللمشلول بسؤال الحس، فكم بيننا من أموات يصفون موتهم بالطمأنينة، كل إجاباتهم عند التأمل مجرد شرح طويل لعجزهم، هذا (الشرح الطويل للعجز) عن الإجابة، يسمونه (إجابة) عن كل أسئلة الدنيا، من الثقوب السوداء في أقصى الفلك حتى النانو كجزء من المليون من المليمتر، فكيف تشرح مجموع الشموس في (درب التبانة) ومدارس أبنائك تُدَرِّس في حصة ما تمسحه في أخرى، كصراع بين مقررات الميثولوجيا في القرون الوسطى ومقررات العلم في العصر الحديث، ثم نسأل باستنكار سمج كيف يوجد معلم أكاديمي يطوف بين زملائه يطلب شفاء ركبته من الألم بجمع غسول أياديهم وبصاقهم غافلاً عن الوزن الزائد على ركبته المسكينة، فمن يلوم المثقف على (درب السلامة) ولو بالصمت الحكيم.