من المفاهيم التي تعد من البديهيات، ونحفظها جميعاً عن ظهر غيب، أن مفاتيح الجنة والنار ليست في أيدينا، كما ليس بيننا وكلاء عن الله، وأنه إن كتب الله النعيم لمن مات فلا قيمة حينها لدعائنا عليه بالهلاك، وإن كتب له الهلاك فلا فائدة حينها من دعائنا له بالرحمة، إننا نحفظ هذا جيداً ونردده صباح مساء، المفارقة أن أكثر من يردد هذه المفاهيم على مسامعنا هم أنفسهم الذين يتصرفون كوكلاء عن الله في خلقه! هؤلاء يقسمون شفهيا أنهم مجرد بشر، لكنهم عملياً يتصرفون كأنصاف آلهة، يُرحّلوُن من لا يستسيغون إلى جهنم، ويبقون على من يرضون في الجنة، يترضون على من يوافقهم، ويدعون على من يخالفهم بالهلاك، ومن لطف الله أنه لا يستجيب لمثل هذا الدعاء، لأن في الإجابة هلاك البشر.

اللهم لا ترحم عبدك فلانا لأنه كان في حياته يمتهن الغناء، اللهم عذب هذا لأنه في حياته كتب رواية تعرض خلالها لثوابتنا، اللهم عليك بمن خالفنا مذهبيا أو فكريا، فقد ارتأى في حياته أننا لسنا على صواب! إن الترحم على الميت أو حتى الدعاء عليه بالهلاك مسألة تحددها تصرفات الميت وأفعاله حين كان على قيد الحياة، فالإنسان الطبيعي الخلوق سيترحم عليه الآخرون، بينما الظالم الجبار فسيُدعى عليه بالعذاب، هذا هو المعيار الوحيد، أما إن كانت هنالك أسباب أخرى، كأن ندعو على الميت بالهلاك حسداً أو كرهاً أو جهلاً أو توقفاً عند أقوال الفقهاء، فعلينا حينها أن نترحم على حالنا، أن نبكي موت ضمائرنا، على من يترفع عن الترحم على الأموات لدوافع تحزبية أن يراجع أقرب عيادة نفسية أو أن يُجر إليها جراً.

في عام 2006 توفي الروائي «نجيب محفوظ»، ورغم موته في ذلك التاريخ إلا أنه لا يزال إلى اليوم متواجداً بيننا، بل ومؤثراً فينا من خلال كتبه وحكاياته ومقولاته، بينما الذين صرخوا فور موته وأخذوا ينبشون في التراث ليستخرجوا الأدلة الشرعية على أنه من الهالكين، هؤلاء هم الأموات حقاً، ودلالة موتهم أن كل آثارهم في هذه الدنيا تدور حول نشر الكآبة وفتاوى الخراب، هذه إسهاماتهم وهي دلالة موتهم، إنهم أموات طيلة الوقت، ولا ينهضون إلا حين يرحل عن هذه الدنيا إنسان له أثر يخلده، كأن الحياة تدب في عروقهم عند الفواجع، فيبعثون من قبورهم للحظاتٍ يصرخون خلالها ثم يعودون إلى مرقدهم حتى موعد المصيبة التالية، وهكذا استيقظوا مرةً أخرى عند رحيل «غازي القصيبي» وأعادوا حينها شريط الدعاء بالهلاك من بدايته.

وهذا ما حدث أيضاً حين رحل الإنسان أولاً، ثم الفنان رقيق المشاعر «طلال مداح»، فقد خرجت حينها كل الجثث لتحدثنا عن العذاب الذي يتلقاه «طلال مداح» الآن في قبره، وكيف أن الثعابين استقبلت جثمانه، وأن النار شوهدت تخرج من قبره! والكثير من الأقاويل تم تداولها في ذلك الوقت دون أي مراعاة لمشاعر أهل الراحل ولا مشاعر من أحبوه، وأي ذوق ومراعاة مشاعر سيلتزم بها من يعيش في هذه الدنيا كميت لا روح فيه؟! خرجت كل الجثث وقتها لتقول لنا إن هذا الإنسان تحديداً لن يجد الراحة في قبره فقط لأنه مُطرِب! وفي الحقيقة لا لوم عليهم أبداً، فمن يعيش ميتاً من الطبيعي ألا يُطرب عند سماع ما يُذكره بالحياة التي حُرِم منها.

ويبدو أن الأمر أصبح عادة، أن تنبت ألف شوكة في نفس المكان الذي تموت فيه الوردة، وها قد خرجت ألف جثة لا هم لها إلا نشر الكآبة والغم في نفس اليوم الذي رحل فيه إنسان لم يكن له من هم إلا صناعة الضحكة! إن مشكلة كل هذه الجثث ليست مع الراحل «عبدالحسين» –رحمه الله- لأنه فنان إنما مشكلتهم أنه لم يكن يعيش نسختهم من الحياة، أنه لم يكن يضحك ويُضحكنا بطريقة شرعية، فمشكلة هؤلاء أن لديهم نسخة مختلفة عن الحياة، نسخة حيث الغناء فيها شرعي، والتمثيل فيها ملتزم، والقصائد والروايات تدور في فلك الوعظ والإرشاد، كل شيء في هذه النسخة من الحياة مختلف، حتى الإسلام لابد أن يكون منضبطاً بالضوابط الشرعية، والعالم الفقيه غير الملتزم بهذه الضوابط كما لم يفعل الشيخ «محمد علوي المالكي» فهو إن لم يكن من الهالكين فأضعف الإيمان أنه ممن لا تجوز الرحمة عليه.

إن قائمة المغضوب عليهم من الأموات زاخرة، ولا تزال عملية تدوين أسماء الأحياء من الفنانين والأدباء والمفكرين قيد التدوين، وتحت كل اسم في هذه القائمة شرح مبسط لأسباب التهلكة، ومع كل اسم هنالك العذر المناسب للتقبيح، فهذا علماني وذلك تغريبي والثالث صوفي ومن لم تتبين طينته فسيُشتم لوجه الله! مما يعني أن كون الفنان «عبدالحسين» على المذهب الشيعي فهذا مجرد عذر، والعذر إن وُجِد فخير، وإن لم يوجد فلا بأس أن تستمر عملية التقبيح والتشنيع كالمعتاد، فالمشكلة أساساً ليست مع شخص هذا الفنان، إنما مع الضحكة التي كان يصنعها، فالضحكة كالغناء والرواية والفكرة الجديدة وككل شيء آخر يذكرهم بالحياة التي حُرِموا منها، هذا كل ما في الأمر.