كثر الجدل حول مصطلح (العلمانية) ما بين من يحاول تبيئته داخل النسيج الديني كجزء من حقيقة الإسلام، وما بين من يحاول إقصاءه بنفس المرجعية كجزء خارج على حقيقة الإسلام، كل هذا يعيدنا إلى المربع الأول والمفصل الحقيقي للأزمة، فالأزمة ليست في مصطلحات العلمانية ولا في الحداثة ولا في الرأسمالية أو الاشتراكية، ولا في جهات شرق أو غرب، الأزمة في خمس ضرورات/ حقوق إنسانية من يراعيها سيكون له قصب السبق الإنساني والحضاري والديني، ومن يفشل في فهمها على الوجه الأسمى ويريد تحويلها إلى عنصرية وطائفية فهو أعجز من أن يفهم مسيرة الحضارة الإنسانية، ولا تعدو قراءته لكتب الحضارة الأوروبية والهندية والصينية مجرد استظهار الطفل للكلمات مع عجز عن النظر خارج دائرة مدرسانيته الخانقة والمختنقة بنفسها وتناقضاتها.

لنتأمل في فهم الدول المتقدمة حضارياً لهذه الضرورات/الحقوق، ونرى الفرق بين فهم بعضنا وفهمها لهذه الضرورات/الحقوق الخمس (حفظ النفس، حفظ المال، حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ النسل) لنرى أن المفاجأة الأولى هي في فهم هذه الدول حول مركزية (الإنسان) في هذه الضرورات، وليس مجرد (المسلم) فقط.

طبعاً داخل التيارات الإسلامية حتى هذه المفردة (مسلم) فيها خلاف، فهل حفظ هذه الضرورات/الحقوق على نفس القدم والمساواة بين المسلم الشيعي والسلفي والصوفي أم أن حفظ الدين للسلفي فقط مع انتهاك المعنى الديني للشيعي والصوفي والعكس، فهل عرفنا الهوة التي نعيشها؟! فكيف بحفظ الدين لغير المسلم كالمسيحي والبوذي!.

وهنا نتفاجأ بالدول المتحضرة وهي تراعي حق حفظ الدين بالمعنى (الإنساني) فترى المسجد والمعبد والكنيسة بقدر احتياج عدد المنتمين لها هناك، ثم نأتي لحفظ النفس، لنرى أن قيمة الإنسان واحدة في هذه الدول، وليس كما يفهم البعض، فنراه يفرق بين نفس المسلم وغيره، بل قد سمعنا وقرأنا بين من يفرق بين نفس المسلم السني والشيعي حتى في مجرد كلمات الترحم بعد الموت، فهل عرفنا كم المسافة بين هؤلاء وبين الإنسانية المتحضرة؟!.

تجدهم في الدول المتحضرة يراعون قائمة الطعام لابن المسلم واليهودي في المدرسة، فلم يقتحموا الجزء الخاص بدين الأسرة، بل ذكّروا هذا الابن أن في أحد الأطعمة لحم خنزير كي يتجنبه.

لن أذكر حفظ المال في تلك الدول المتقدمة، فالكل يعرف مدى أهمية تقدير كل شيء، فلا توجد عندهم ولائم يذبح فيها عشرات الرؤوس من الدواب ثم ترمى في مكب النفايات، هذا على المستوى الشعبي وصولاً لمحاسبة رئيس وزراء على اختلاس بسيط لا يتجاوز مقدار ما يختلسه أصغر فاسد في بلدان العالم الثالث.

أما حفظ النسل، فلا تقوم العلاقة بين الزوجين على تكافؤ قائم على العنصرية العرقية بقدر ما تقوم على قانون المسؤولية والمحاسبة بالمثل في شركة حقيقية بأنظمة متساوية في (مؤسسة الزواج)، وقبل ذلك نجدهم هناك يحمون القاصرات من الزواج لعدم الأهلية واكتمال الإرادة، ويصفون من يهوى هذا النوع من العلاقة بمريض (البيدوفيليا) حفاظاً على النسل وتكوين الأسرة بنجاح، بدلاً من فوضى الذرية في تعدد الزوجات هوى ورغبة بلا مسؤولية، وجهل بأبجديات التربية والنفقة ومعنى (أسرة)، ولا يغتر أحد بعبارة (هناك في الغرب أبناء سفاح)، ففي كل دول الدنيا (دار رعاية اجتماعية)، والدولة النموذج هي القادرة على إدماجهم في مجتمعها الإنساني الذي لا يحملهم أخطاء ما قبل ميلادهم، فكيف بمجتمعات ما زالت تفرق بين أزواج عندهم أطفال بسبب عدم تكافؤ النسب.

المقال لن يحتمل سرد تفاصيل فهم الدول المتحضرة لمعنى الضرورات/الحقوق الخمس، ويكفينا دلالة على حقوق حفظ العقل عندهم، ما سطره المفكرون تحت مصطلح (هجرة العقول العربية) التي خافت على هدر عقولها في أوطانها.

من يزعم أن في هذا هزيمة نفسية وصدمة حضارية فليحمد الله أنه لم يرتطم بواقع الحال كما ارتطمت شعوب حولنا ركضت إلى أوروبا ولو بمغامرة الموت في البحر، بدلاً من أمن اليابسة في اللجوء للدول المجاورة، لكن يكفي النظر لبعضنا لنشعر بالعري قبل النظر لغيرنا، لأن البعض يفهم معنى الضرورات/الحقوق الخمس كما تفهم القبيلة الجاهلية هذا المعنى، فداخل القبيلة البدائية تحترم الضرورات/الحقوق الخمس وتبقى خارجها مستباحة لتصل إلى التفاخر بالسلب والنهب للآخرين وصولاً لسبي نساء القبائل الأخرى، والمؤلم من تجده يسوق ويروج للناس هذا الفهم القبلي البدائي فيسميه فهم الإسلام، بل ويجعل له بعداً عقائدياً يسميه (الولاء والبراء)، ثم يقول: العلمانية شر مبين، متناسياً أن المصطلحات في هذا الزمن لم تعد لها قيمة، فلو سئل أحدنا هل أنت على دين البغدادي أو الزرقاوي، أو دين الشيعة أو السنة، لقال هروباً من فوضى المصطلحات والمسميات وواقع حالها البائس: بل أنا على دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء (رحمة للعالمين) وليس للمسلمين فقط، وعلى هذا الفهم استطاع ملايين السعوديين أن يسافروا للخارج سنوياً للسياحة لبلدان تختلف عنهم لغة وعرقاً وديناً، لتجد المثقف منهم وقد تقبل كل من حوله وتفهم خلافاتهم العقائدية والثقافية، تعامله قائم على الأخلاق ذات المشترك الإنساني من صدق وأمانة إلخ، دون أن يعتقد في إخراج أحد من الجنة أو إدخال أحد في النار لمجرد أنه على خلاف عقيدته ودينه، فالله هو الذي قدر لفلان أن يولد في الهند بين الهندوس، وقدر لآخرين أن يعمدوا مسيحيين في إيطاليا، أو يكونوا بوذيين في أقصى جبال التبت، ولو كان ميلاد أحدنا في إحدى تلك البقاع لكان يعبد الله على طريقة أهلها، ولا تهمنا تلك الطريقة، فليست من شأننا، بقدر ما يهمنا ألا تكون تعاليمها وتوجيهات رجال دينها، تؤكد لهم أن دم غيرهم من الديانات الأخرى حلال وهدر بل وعربون إلى جنة الله، فهنا يجب على سبعة مليار إنسان في العالم أجمع بكل دياناتهم ومذاهبهم أن يتحدوا لاستئصال شأفة هذا الوباء، سواء جاءت هذه الشوفينية على لسان البغدادي باسم الله أو على لسان هتلر باسم النازية.

أخيراً ليست الدول المتحضرة النموذج النهائي وآخر الطريق في التسامح والسمو الإنساني، بل فيها ما في البشرية من نقص، ولكن أزمتنا في من يرى القذاة الصغيرة في عين الحضارات الأخرى، ويعجز عن رؤية الجذع العنصري والطائفي في عينه، بل وصل الحال إلى نزيف حاد بالعين بسبب هذا الجذع الطائفي والعنصري دون إحساس، وكيف يكون الإحساس وبعضنا يسمي هذا الجذع دينا وعقيدة.

التواضع بلا وضاعة هو أول الطريق نحو حضارة إنسانية لا نسابق فيها أحداً، بقدر ما نكون شركاء الإنسانية في السمو الحضاري عبر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، فالحضارة عبر تاريخها الطويل ليست سوى تراكمات التجارب الإنسانية في كل مكان بحثاً عن العدل والحرية والمساواة، فحيثما كانت الكرامة الإنسانية لكل الناس دون تمييز عنصري وطائفي فثمَّ شرع الله مهما شوهنا كل ما يدل عليها نحو (علمانية أو معاصرة أو تجديد أو عقلانية)، وحيثما كان الظلم والقهر للإنسان بسبب عنصري أو طائفي فثمة شريعة الاستبداد الشيطاني والتمدد السرطاني مهما جملناها بالأسماء نحو (دولة الإسلام في العراق والشام).