من الأطروحات المثيرة في عهد النبوة الأولى عدم انشغال الرسول الكريم بتغيير الأسماء التي لها دلالات وثنية بأسماء أخرى، بقدر انشغاله بتغيير الأسماء ذات الدلالة المتشائمة، فلا نجده حاول تغيير عبدالمطلب مثلاً، بل قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب، والسؤال المطروح هنا: من أين جاءنا الوسواس القهري والهوس المرضي في تغيير الأسماء أو ربطها بكلمة إسلامي، فالقانون غيرناه بكلمة نظام، والدستور الخاص بالدولة أسميناه (النظام الأساسي للحكم)، برغم إصرار البعض أن يخضع القرآن لمنطق الدولة، فيقول: دستور الدولة هو القرآن الكريم، بينما كتاب الله هو هدى ونور، ولا علاقة لسورة الكهف أو المسد أو حتى سورة الأنعام بنظام الدولة الخاص بتفاصيلها الحديثة، سوى ما يتقاطع مع المقاصد العامة التي تحرص عليها كل الأديان السماوية وليس الإسلام فقط، والتي يستغلها المغالطون للحفاظ على منطق (دستورنا القرآن الكريم)، وهذا ربما يصح على المستوى الفردي، ولكنه لا يصح على مستوى مؤسسات الدولة، فرجل الدين ليس حاكماً على مقررات الدولة، بل هو جزء من موظفيها وكادرها العامل وفق منطق الدولة كموظف حكومي، وكل المغالطات الباقية من عهد هيمنة الفكر الإخواني ليست سوى إرهاصات لولاية الفقيه السني، ويجب التخلص منها، باستبدال عموميات رجل الدين بمنطق رجل الدولة، وما عبارة (الإسلام دين ودولة) إلا محاولة من رجل الدين ليستدمج نفسه ضمن منطق رجل الدولة، ليكون هو الدين والدولة، بينما الإسلام دين والناس هم الدولة، وهؤلاء الناس فيهم الشافعي والحنبلي والإسماعيلي والاثني عشري والصوفي والسلفي تجمعهم كلمة (مواطن) في منطق الدولة، ولا دخل للدولة في علاقتهم بالله.

في ورقة قديمة ألقاها محمد زايد الألمعي عام 1427 في مجلس أمير عسير آنذاك مستشار خادم الحرمين الشريفين صاحب السمو الملكي خالد الفيصل، أوضح الألمعي مكان رجل الدين في القبيلة العربية، واستشهد بمثل عربي (الفقيه لا يسيف ولا يضيف)، ويعني به القبيلة العربية التي كانت تقصي رجل الدين عن (شيئين يشكلان جوهر السطوة والسلطة القبلية، وهما حق الضيافة للآخرين، وتحمل أعباء هذه الواجبات، وحق حمل السلاح والقتال)، أي قرار الحرب وقرار السلم القبلي، مع رضا رجل الدين بدوره في أن يعلم أولادها إن تيسر الأمر، ويؤمها في الصلاة ويعظها، وقد حاول الألمعي أن يعيد تموضع رجل الدين في زمننا هذا إلى موقعه الطبيعي عند القبيلة العربية، كرجل تستعين به القبيلة في مسائلها الفقهية في ما يتعلق بالعبادات وصولاً لعقد النكاح، وما عدا ذلك فيبقى لشيخ القبيلة العربية وسادة العشائر الكلمة الفصل فيه، والغريب أن الدولة العربية الحديثة بدلاً من الحفاظ على المكان والحجم الطبيعي لرجل الدين الذي قررته القبيلة العربية قديماً، نراها انزلقت في تسييس الحالة الدينية للمجتمع ليتضخم حجم رجل الدين بجوار شيخ القبيلة وسادة العشائر، وصولاً إلى تضخم حجمه أمام رجل الدولة، فيتوهم في نفسه أنه شريك حقيقي في إدارة البلاد حرباً وسلماً، وصولاً حتى إلى إدارتها فكراً وثقافة، وقد أشار الألمعي في ورقته تلك إلى وجع نراه ماثلاً أمامنا هذه الأيام عندما قال في ختام ورقته عن الإسلام السياسي قبل عشر سنوات: (إعادة هيكلة مؤسسات الثقافة في بلادنا يتطلب وعياً مستقبلياً ثاقباً بحيث لا تصل المؤسسة الثقافية إلى المأزق الذي وصل إليه التعليم في بلادنا، وإن كانت الثقافة لم تسلم من مخرجات التعليم التي نعرفها جميعاً)، وقد ترك لنا وصف تلك المخرجات، لنجد بعض الأندية الأدبية تدور في فلك المراكز الصيفية القديمة تزوقها برطانة أكاديمية تستبطن تقاليد الإسلام السياسي في كل همساتها وسكناتها.

رجل الدين له كل الاعتبار وفق حجم طبيعي فردي، لا يتجاوز صلاحيات كل الوزارات، وسأوضح الأمر بشكل مباشر، قرار دخول أبنائنا إلى حرب العراق منذ 2003 وحتى الآن ليصبحوا ضحايا ما أسموه الجهاد، كان قرار إعلان الحرب فيه بيد بعض الشيوخ الذين لا يدركون في فقه السياسة الدولية معنى (الدولة القطرية) عدا أن يفهموا معنى عضوية الدولة في هيئة الأمم المتحدة ومعنى مجلس الأمن الدولي... إلخ، وهذا شاهد على اختطاف قرار الحرب من يد الدولة في الوطن العربي، والشاهد هو ما نراه من مشاركات أبناء كثير من الدول العربية، وقد يحاول البعض نقض هذه الفرضية بوجود مسلمين من دول أوروبية شاركوا في التطرف، متناسياً الحقيقة المؤلمة أن سبب عدم اندماج هؤلاء في مجتمعهم الأوروبي هو في دخولهم دهليز الغيتو الذي اصطنعه داخل الدول الغربية بعض المتطرفين الهاربين من بلدانهم العربية، لتبقى حاضنة القرار الإرهابي منطلقة من أرض عربية لرجال دين عرب محسوبين على دولة عربية عضو في هيئة الأمم المتحدة.

الحالة الدينية حالة روحية جميلة يهرب إليها الإنسان من عنت الحياة، مصداقاً لقول الرسول الكريم: (أرحنا بالصلاة يا بلال)، فكيف تحولت إلى حالة يهرب منها كثير من الناس لأن قرار النية والضمير فيها أصبح منتهكاً بقوة رأسمال رمزي يحسب نفسه على الدولة عبر فرض الإكراه الديني في الفضاء العام، فكيف يتحقق قوله تعالى: (لا إكراه في الدين).

رجل الدين يختلف اختلافاً جذرياً عن القاضي، فالقاضي يستمد قوته من السلطة القضائية التي منحها إياه نظام الدولة وفق حدود قانونية لا يستطيع تجاوزها، يضعها له رجال السلطة التشريعية، ويعجز عن تنفيذها لتكون بيد رجال السلطة التنفيذية كنوع من التكامل والتدافع بين السلطات الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية)، الذي يصب في مصلحة المواطن بالمعنى الحديث، أما رجل الدين فيبقى خيار حياة شخصيا لا يرجو منه صاحبه أي فائدة دنيوية، ليكون رجل دين يقدم خدمة اجتماعية في التفرغ لإقامة العبادات، وما تقدمه الدولة من إعانة في هذا الشأن تقدمه بمنطق الدولة الحديثة لرعاية المجال الروحي للناس بشكل متساوٍ لكل الطوائف والمذاهب لمواطنيها، وأي محاولة من رجل الدين لتوسيع مجاله الحيوي باسم الدين هو محاولة لم يقبلها شيخ القبيلة العربي منذ عهد النبوة الأولى، فسادة الأوس والخزرج هم سادة الأوس والخزرج قبل الإسلام وبعده، وسادة قريش هم سادة قريش قبل الإسلام وبعده، فكيف بدولة حديثة قامت في أساسها على بيعة بين مختلف شيوخ القبائل العربية ووجهاء الحواضر وبين الملك عبدالعزيز بغض النظر عن طائفة ومذهب تلك القبائل والحواضر، والواقع الحالي يشهد على ذلك من نجران إلى حفر الباطن ومن القطيف إلى جدة، بيعة عرب أحرار لملك عربي حر، ولهذا كان عبدالعزيز وكنا سعوديين، ولا شرف لحر في قيادة العبيد، فالإسلام عرفته الجزيرة العربية بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يزايد على تدين المواطنين فليس إلا مصطنعا لفتنة جهيمانية أو دعوة خمينية، ومن يعرف معنى الدولة لا تجره العمائم واللحى، ومن يشكو الضيم فعليه بمعنى كلمة (مواطن) حقوق وواجبات وسيصل إلى مبتغاه، أما من يريدها حقوقاً بلا واجبات، فسيصرخ من ألم الفطام، ويصدق الحمقى أنه يصرخ لأجلهم، وهم وقوده الخصب في المغالطة باسم الدين وحقوق العباد.