عندما يبدأ الكاتب موضوعه بـ«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» سيقابل بريبة فربما يكون من الإسلاميين، فإن بدأ الموضوع بـ«تحية عطرة، أما بعد» إذاً هنالك احتمالية أن يكون الكاتب من الليبراليين، فهذه حتما ليست بتحية المؤمنين! وهكذا يصل الكاتب لقناعة بأن من الأفضل له والأسلم أن يبدأ موضوعه بلا سلام ولا تحية، فالمجتمع يحاسب دائما على الحرف وعلى النية، الأفضل له أن يدخل في صلب الموضوع بلا تمهيد أيضا وإن أمكنه

ألا يضع لموضوعه عنوانا فهذا أفضل، فكثيرون لا يردون على الموضوع إنما على العنوان فقط، وهكذا تدخل لصلب الموضوع، لكن أي موضوع؟!.

تكتب مثلا عن التاجر فلان ومن أين له هذا؟!، يأتيك الرد: (يا أخي الله أعطاه من واسع فضله، إنت وش دخلك!، هذي أرزاق من الرزاق الكريم، يا الله إن تكرمنا، فبلاش حسد!)، وهكذا يخرج الكاتب في الأخير بقناعة بأن أس البلاء وساسه في نفسيته الحاقدة وعينه التي تنظر في أرزاق الناس، فيكتب موضوعا عن نفس فلان التاجر وكيف أنه بدأ عصاميا ثم وبالأمانة والإخلاص وصل للعلا، ليأتي الرد فورا: (حنا ما ودانا في داهية إلا أشكالك، يا مطبل، أتحداك تسأله: من أين لك هذا؟!).

تكتب عن رجل الدين وعن الثقافة الدينية موضوعا تطرح فيه ما تراه ليس من الدين أو ما يُشكِل عليك فيه، فيصلك الرد: (يا زنديق، تتشطر على البردعة وسايب الحمار يمرح!)، تسأل: من الحمار؟!، تلقى الحمار سياسيا بامتياز، فتتشطر هذه المرة على الحمار وتبحث في أسباب الحميرة السياسية، فأنت خوفاً من الزندقة ستضع كامل اللوم على رأس السياسي، حينها يأتيك الرد: (يا زوار السفارات، المشكلة ما هي في السياسي فالسياسي في الأخير ابن ثقافة أخرجته متحميرا، الخلل إذاً في الثقافة لكن أمثالك ما يقدرون يكتبون عن المثقف).

فتقتنع أن السبب الرئيسي كامن في الثقافة، وهكذا تكتب عن المثقف التنويري الليبرالي بوصفه العدو الأخطر على البلاد، فأفكاره تغريبية انحلالية وقبل أن تسترسل في الموضوع يأتيك الرد: (يا الظلامي يا الرجعي، تارك المطاوعة والشيوخ وتشتم التيار التنويري في البلد!).

في الحقيقة ستكتشف بعد رحلة ممتعة من التشكيك في سلامة قواك العقلية والنفسية، وأن الأنسب ألا تكتب بعد الآن بشكل محدد، إنما عن أشياء عامة، وهكذا تكتب عن وضع المرأة في الثقافة الذكورية وكيف أن الكثير من حقوقها مهدرة، ليأتيك الرد: (ألحين تارك مشاكل البلد الرئيسية وجالس تتكلم عن الحريم؟!، أكتب عن غلاء الأسعار أو عن الضرائب مثلاً ولا حاب تتميلح وتعمل فيها إنك من أنصار المرأة، ترى أشكالك مفضوحين!).

تبحث عن مشاكل البلد الرئيسية التي تعتبر أهم من حقوق المرأة، فتجد أن من أهم تلك المشاكل هو «ارتفاع أسعار البعارين»، فتتساءل صادقا عن أسباب ارتفاع البعير لما يزيد على أربعين مليونا في بعض الحالات، فيأتيك الرد الفوري: (إلا البعير والبعارين، هذا تراثنا يا الحبيب، خلك في موضوع نزع الولاية أبرك لأن هذا مستواك).

تكتب عن نزع الولاية يأتيك الرد: (ألحين تارك مشاكل المطلقات والمعنفات وجاي تكتب عن نزع الولاية؟!)، تكتب عن مشاكل المطلقات والمعنفات يأتيك الرد: (روح اكتب عن نزع الولاية بالأول ولا خايف من المطاوعة، تقول

يا الله يُقال لك حدد معنى الله، تقول لا إله يتم إيقاف رصيدك في البنك!).

هذه خلاصة الكتابة، إنها تجسيد عملي لقول الشاعر «أحمد مطر»: وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم. الإشكالية أنه لا يوجد نموذج محدد ليتأقلم معه المرء، فلكل طائفة نموذج ولكل نموذج نقيضه، إن تأقلمت مع هذا شتمك ذاك، وإن تماشيت مع الجميع فأنت متلون خبيث.

وللخروج من هذه المعضلة فالأسلم للكاتب أن يكتب عن أشياء لا تهم أحدا في أي شيء، أن يكتب مثلا عن سكان الإسكيمو، فلا أحد فينا يعلم أو يهتم بهؤلاء، وما لا يهم أحدا فهو مجال خصب للكتابة، فإحدى المعضلات في الإسكيمو مثلا أن هيمنة اللون الأبيض على السماء والأرض تصيب الإنسان بعمى الألوان، فلا يفرق حينها هل الواقف أمامه ذكر أم أنثى، وهذا لعمري هو الضلال المبين، فـ«اللهم عليك بأهل الإسكيمو» فإنهم قوم يعيشون في أزمة نفسية ثقافية حادة تجعلهم يحاسبون بعضهم البعض على الحرف والنية، وربما هذه من آثار العيش في البيئات القاحلة.