تعريفي للكتابة أنها فعل مبني على القلق، حيث يحيط بها القلق من الجهات الأربع، فالتحضير للموضوع قلق، واختيار العنوان قلق، والانشغال بنحت الموضوع قلق، ثم تأتي مرحلة قلق انتظار رد فعل القُراء، فإن لم يرد منهم أحد فمرحباً بقلق البحث عن العلة، هذا بغض النظر عن قلق المشي على الحبلين والنط بين المعاني ثم التلاعب بالأوزان، فالجُمل في الأخير لابد أن تكون موزونة قدر المستطاع، ولوزنها لابد من تمطيطها من ناحية وتقليصها من أخرى، لابد من قصها ومن ثم تفصيلها على المقاس، إنها قلقٌ على قلق، فيها تتشابك العاطفة بالعقل فتغلب هذه تارة وذلك تارةً أخرى، وهكذا يبدأ صراعٌ على الحرف لا ينتهي.

إن الكتابة عملية مُرهقة لكنها محببة للنفس، فهي تسرق الكاتب من الحياة إلا أنه لا يكترث، إنها أشبه بعلاقة غرام عمادها الوجع إلا أن هذا الوجع يؤجج الولع أكثر فأكثر، إن الحرف هو ذلك الصديق التخيلي الذي يساعدني بلا ملل في عملية البحث عن المعنى، عن الغاية والهدف، يساعدني كي أفهم وأستوعب، إلا أن أعظم أدواره تتجلى في أنه أفضل من يُمضي بي هذا اليوم الذي لم يمض منذ شهور، فاليوم بات نسخة عن الأمس، كل الأحداث فيه قد حدثت من قبل، لقد كتبت مقالاً اليوم ثم اكتشفت أنني كنت قد كتبته بالأمس، والسبب ليس أنني بدأت في تكرار ما أقول كرجل مُسِن يشعر بالملل، إنما العلة أن لا جديد يُكتب عنه.

كل الأشياء في المجتمعات طافحة بالمعاني، كل ما يحدث هنا يُعبر عن ذاته بذاته فلا يحتاج إذًا للمزيد، أو ربما لا يحتاج أساساً للتعبير عنه، فسواء فهمنا أم لم نفهم فإن ما يحدث، يحدث وكأنه قدر، ولا يمكن تغيير القدر بمحاولات الفهم، أو ربما الوضع في المجتمع بات مستقراً، فلا جنون جديد يُكتب عنه، فآلة نسخ فتاوى التكفير تعطلت، والصحوة التي ملأت دنيا المجتمع بالوسوسة ماتت، والكتابة عن الميت حرام، لقد استقر الوضع أخيراً وعاد الهدوء، والهدوء يعني الرتابة والملل، ستقود المرأة منذ اليوم وكل يوم، فعن ماذا سيكتب أنصارها غداً؟ ربما سيشرحون لها أن اللون الأحمر يعني قف، سيشرحون هذا الأمر مطولاً دون أن يستوعبوا أن اللون الأحمر بالنسبة للمرأة يدفعها إلى الغضب، فما الحاجة حينها للكتابة لها إن كانت ستغضب في كل الأحوال، كل ما تغير هذه المرة أنها باتت تمتلك أداة قتل مؤمنة تأمينا شاملا.

واضح مما سبق أنني لم أحدد بالضبط ماذا أكتب في كتابتي الأخيرة، فالكتابة بالنسبة لي تعتبر بديلاً عن الانتحار، فكيف تُحدد بالضبط طريقة الانتحار الأخير؟ لا أدري، ربما الأفضل في هذه الحالة أن يأخذ القلم مجراه ليكون الكاتب مجرد تابع له، المشكلة هنا أن الانتحار حرام أما الكتابة فعليها رقيبٌ شديد، وهكذا يكون الموت موجهاً ملتزماً بالضوابط والثوابت والتوجهات، وقد قررت ألا أموت بهذه الطريقة بعد الآن، هذا كل ما في الأمر.