بقيت «المدينة المنورة» رمزا وسيرة مقدسة في الموروث الإسلامي الكتابي والشفوي، وداخل حركة التاريخ، دار الهجرة والنصرة، ومأرز الإيمان، ومرابع الهداية، فيها روضة من رياض الجنة، صلاة في مسجدها أفضل من ألف فيما سواه إلا المسجد الحرام، تختزن الذاكرة العربية والإسلامية فيضا تهجديا وجدانيا، ومخزونا شعريا مشعا ومحتدما، ومساقط ضوء ومديات من المرويات والالتماعات، التي تعلي من مكانة المدينة المنورة، وظلال الروح الوارفة فيها، والانثيالات والرؤى الشعرية، التي تكشف شمائل وطهارة ذلك الأفق السامي، والغبطة المشتهاة، والهاجس الملح، واليقظة المنتشية في قلوب الشعراء، حين رفعوا شعرهم تجاهها إلى أقصى حالاته من الارتواء العالق بالروح والجسد، يقول الشاعر «محمد هاشم رشيد»:

مدينة الحب والإيثار يا حلما

تهفو إليه الرؤى من سالف الأمد

مازلت في جبهة الدنيا منورة

والمكرمات يد موصولة بيد

حملت للكون رايات الهدى فغدت

كالغيث من بلد يفضي إلى بلد

حتى استنارت بك الظلماء وائتلقت

مناهج الحق في قول ومعتقد

وتمتد اللغة المزدهرة، والغنائية العذبة، والاستغراق المرهف بحنجرة الشاعر «عبدالمحسن بن حليت»:

أنا المدينة من في الكون يجهلني

ومن تراه درى عني وما شغلا؟

تتلمذ المجد طفلا عند مدرستي

حتى تخرج منها عالما رجلا

فتحت قلبي لخير الخلق قاطبة

فلم يفارقه يوما منذ أن دخلا

وصرت سيدة الدنيا به شرفا

اسمي لكل حدود الأرض قد وصلا

أنا المنورة الفيحاء ذا نسبي

إذا البدور رأتني أطرقت خجلا

أشاع الشعراء مناخا جماليا من عوالم التجليات، والاحتفاء والإفصاح الكامن في أعماق النفس وأمداء الوجود والحس اليقيني، يقول الشاعر السوداني «محمد المكي إبراهيم» عن المدينة المنورة في ديوانه «بعض الرحيق أنا» مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور، وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل وفي الحصى المنثور، مدينتك الحقيقة والسلام، على السجوف حمامة وعلى الربى عصفور، مدينتك الحديقة يارسول الله كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور هنالك للهواء أريجه النبوي موصولا بأنفاس السماء وكأسها الكافور، هنالك للثرى طيب بدمع العاشقين ولؤلؤ منثور، هنالك للضحى حجل بأسوار البقيع وخفة وحبور، هنالك للصلاة رياضها الفيحاء والقرآن فجريا تضيء به لهى وصدور، بساعات الإجابة تحفل الدنيا وأنهار الدعاء تمور.