الأمر السامي المتضمن منحَ الإناث رخصاً لقيادة المركبات، كان ينبغي لكل من علق عليه مؤيداً لمضمونه أو مختلفاً معه الانطلاق من المنهجية التي صِيغَ بها، وهي منهجية متميزة، تجمع ولا تُفَرِّق، تُحَبِّبُ ولا تُبَغِّض، وحُقَّ لها أن يستفيد منها الكُتَّاب من كلا الفريقين، لا أن يتجاوزوها إلى التشاتم والتشامت والمهاترات، التي تخرج بالموضوع عن كونه قضيةً يطلب الطرفان فيها مصلحة الوطن ودفع الضرر عنه، إلى فرصة ينتهزها الفُرقاء؛ لمغالبة خصومهم وكسر بعضهم عظام بعض.

فقد ابتدأ الأمر السامي بتعظيم قدر كبار العلماء، ممثلين في هيئتهم الرسمية؛ وذلك بإرجاع الأمر أولاً إليهم، وإيضاح أن الملك صدر في قراره هذا بعد مكاتبتهم؛ ليس لمعرفة موقفهم وحسب، بل لمعرفة المناطِ الأصولي الذي تعلق به المانعون والمجيزون منهم، ثم اعتُمد الأمر.

 نقطة الاتفاق بين أعضاء هيئة كبار العلماء كما نصّ البيان:

«أنهم لا يرون مانعاً من السماح لها بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي تلك الذرائع، ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه»، وأن الدولة ستعمل على إيجاد الضمانات، وتلافي الذرائع بوصفها حامية القيم الشرعية في هذا الأمر وفي غيره.

فهذا المرسوم يؤكد مرجعية الشريعة ومكانة العلماء، ومسؤولية الدولة في حماية القيم؛ وهذه المعاني كان الواجب اتفاق الأقلام على الصدور عنها وتأكيدها، واقتراح المشروعات والأفكار المعززة لها؛ لينتج عن ذلك توحيد الكلمة وتطمين المتخوفين القلقين؛ لكن الذي حدث هو ضد ذلك؛ من تعاطٍ يدعم القلق والخوف والشك، ويخالف نص المرسوم وروحه وغايته.

فظَهَر أحد المسؤولين يؤكد أن رُخص القيادة لن تحتاج إلى إذن ولي أمر المرأة؛ وهو فيما يظهر تصريح مخالف للأمر السامي، الذي ينص على أن هناك لجنة ستتولى تحديد الترتيبات اللازمة لتطبيق هذا القرار؛ ولاشك أن مثل هذا الافتيات يعزز مخاوف الممتنعين، ولا يتماشى مع روح الأمر السامي وحَرْفه.

كما صدرت تصريحات من عدد من المسؤولين تدعم توجهات القلقين، كقول أحدهم: إن هذا القرار ليس إلا فاتحة تغيير اجتماعي كبير. وقول أحدهم: إنه قرار سيصنع الفرق بين الأمس والغد. ويقول مسؤول ثالث عن هذا القرار: إنه نقلة اجتماعية. ومسؤول رابع يكتب عن هذا القرار: إن تاريخنا يُكتب من جديد!

وإلى جوار هذه التصريحات عدد آخر، أكثره ينطلق من مفاهيم أُخَر لم يتضمنها الأمر السامي، بل تضمن ضدَّها؛ فأي فارق بين الأمس والغد؟ وأي تغيير اجتماعي ونقلة اجتماعية؟ وأي كتابة تاريخ من جديد سيصنعها هذا القرار الذي لم يُرِد منه ولي الأمر كما هو نص البيان وروحه سوى تيسير وسائل الانتقال للنساء وليس فيه تغيير للتاريخ ولا للمجتمع، بل فيه النص على مسؤولية الدولة عن المحافظة على القيم الشرعية للمجتمع؟

إن هذه التصريحات توحي للمتخوف بأن هذا القرار في نظر بعض المسؤولين ليس قراراً فَتَحَ طريقة انتقال جديدة للنساء، ولا هو تيسير لأمورهن الحياتية اليومية وحسب، بل يُرَاد منه نقل المجتمع وتغييره بالكليّة من حال إلى حال، وهكذا سيفهم المتوجسون.

أضف إلى ذلك أن المسؤولين الذين أصدروا مثل هذه التصريحات لم يبينوا ما هي الحال الاجتماعية الجديدة التي سيتم الانتقال إليها بعد تطبيق هذا القرار، ولم يوضحّوا أنه يحمّل المرأة مسؤولية انتقالها بنفسها على متن المركبات، بيد أن هذا الإيضاح كان حريّاً أن يقدمه هؤلاء المسؤولون، وإن لم يكن فالصمت كان أحرى بهم.

 إن ثناءات الدول الأجنبية والمنظمات الحقوقية والنسوية على هذا القرار كان مدعاةً لرد قوي ودبلوماسي في الوقت نفسه من هؤلاء المسؤولين ومن غيرهم، يُثلِج صدر المواطن السعودي، ويشرح للعالم: أن هذا القرار داخلي محض، ويمس المجتمع وخصوصيته، وإنه لم يكن لأي دولة أو منظمة غير سعودية حق انتقاص الوضع السعودي، لا قبل صدور القرار ولا بعده، فكذلك نحن في بلادنا دولةً وشعباً: في غنى عن أي تهنئات ذات منطلقات ثقافية وحضارية مختلفة كثيراً عنا.

كان يجب أن يشرح المسؤولون للعالم أن القرار خالٍ من أي دلالات مما ترمي إليه الولايات المتحدة والمؤسسات الغربية في مشروع نشر قِيَمِها في العالم، وليس له علاقة بما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بأنه «الاتجاه الصحيح»، ويعني به الأمين العام: ما تَفْهَمُه و تَرْسُمُه مؤسسات إدارته في قراراتها ومواثيقها التي تحفّظت عليها المملكة العربية السعودية مرات عديدة، على لسان سفيرها هناك عبدالله المعلمي، وعلى لسان وزير خارجيتها عادل الجبير، في قمة التنمية المستديمة.

إن قيادة المرأة المركبات كما هو نص المرسوم الملكي إنما جاء السماح بها درءاً للسلبيات الواقعة من عدم تمكينها منها؛ وجلباً للمصالح المتوخاة من ذلك. أما الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية ودول الغرب فهي لديهم خطوة ضمن مشروع عولمي تغريبي، ولن يرضيهم من بلادنا إلا رفع تحفظاتها عن اتفاقات ومواثيق كـ«السيداو»، و«التنمية المستديمة»، و«الأمومة والطفل»، وهو ما رفضته المملكة، وستبقى رافضة إياه بعون الله.

وليكن مما يقوله المسؤولون لهؤلاء المهنئين: أن عليهم العناية بملايين النساء اللواتي يتعرضن للقتل والاغتصاب في بلادهن، قبل أن يقلقوا على حال المرأة عندنا.

إن من المؤسف أن تشعر بأن هذا المشروع الأممي للمرأة له أنصار داخل المملكة، جلّهم من الكتاب والإعلاميين، الذين طاروا بكلمات ترمب وابنته فرحاً، وجاءت عناوين بعضهم وتعليقاتهم لتشعرك وكأن هذا القرار ليس إضافة في نظام المرور، وإنما هو قنبلة انفجرت في فئة من الشعب، أو حريق شب في تاريخ مقيت وبغيض؛ شاهد هذه العناوين:

-الأمر السامي يُسقِط آخر أوراق المتطرفين.

- المرأة السعودية تواصل انتصاراتها.

- نضالنا يحقق الثمار.

إن مثل هذه العناوين من كتاب كبار وإعلاميين تعطي انطباعاً بأنها صادرة عن نفسيات حاقدة على مخالفيها، أو متبنية تطلعات مؤسسات الأمم المتحدة النسوية، وليس تطلعات الملك ومؤسسة الدولة السعودية.

كنت أنتظر منهم أن يقدموا من الدراسات العلمية ما يدعم المرسوم حول البنية التحتية للنقل في عواصمنا، ومدى قدرتها على استيعاب الأعداد المنتظرة من السائقات، لكنهم اكتفوا بالسخرية من العلماء والحديث المأفوك عن وقوفهم في وجه التنمية ثمانين عاماً مضت، حتى جاء هذا القرار ليقضي على هيمنتهم، وكأنما العلماء طوال تلك السنين هم الذين حالوا دون تطوير وسائل النقل العام، ومنَعوا توسيع الشوارع والمواقف العامة في الأسواق، ولدى مدارس البنين والبنات، ومنعوا تطوير وتحديث النقل المدرسي!

كنت أنتظر أن يقدموا دراسة حقيقية عن الأثر الإيجابي الذي تحدثوا عنه كثيراً لهذا القرار على الاقتصاد؛ لكنهم لم يفعلوا، وبقي في ذاكرة الممانعين أن واردات السعودية من السيارات بقيمة 60 مليار ريال، وأن الزيادة المتوقعة عليها بعد هذا القرار في مصلحة الدول المصنعة السيارات وليست بلادنا إحداها، وأظن أن العلماء ليسوا هم من حال دون أن تكون المملكة دولة مصنعة للسيارات.

وبقي في أذهان المانعين: أن قيادة المرأة المركبة لا تعني الاستغناء عن السائق الأجنبي، وللمسألة نظائر في جميع الدول المحيطة بنا، ولا توجد دراسة علمية تغير هذا الانطباع.

الخلاصة أن الاستقبال الإعلامي المحلي والعالمي، مع الأسف، يخدم المتوجسين من تبعات هذا القرار، وهو، مع الأسف أيضاً، ليس أول فشل لنا في المعالجة الإعلامية، وأظنه لن يكون الأخير.