قلتها منذ زمن بعيد، ولا غضاضة أبداً أن أعيد كتابتها اليوم: لدينا آلة إحصائية وأخرى مرادفة بحثية تحاول تهوين وتقليل خطورة مشاكلنا وأمراضنا التنموية عبر خداع الأرقام والإحصاءات والنسبة. ومرة أخرى فكل ما أخشاه أن يبني السادة المسؤولون في أجهزة الدولة المختلفة قراراتهم وخططهم الاستراتيجية بناء على ما يرد في ثنايا هذه التقارير الاستطلاعية عبر كذبة هذه النسب. عرضت في هذه الزاوية، آنذاك، نماذج من لعبة الأرقام وتلاعب النسب، وسأكتب اليوم قصة آخر المواليد الجدد. تقول دراسة لهيئة الإحصاءات العامة صدرت مطلع الأسبوع

ما يلي: «ثلث الباحثات عن الوظيفة من النساء يقضين ما يقرب من أكثر من عام واحد في البحث عن وظيفة». وبالطبع توالت وتوالدت مع هذه الجملة المضللة عشرات الأرقام والنسب الكسرية العشرية والمئوية، ما يوهم القارئ وأيضاً المسؤول أن الإخوة الكرام الذين أنتجوا هذه الدراسة قد مسحوا وطافوا كل بيت وكل شارع في كل كيلومتر مربع من أديم هذا الوطن. وحين فرغت من قراءة هذا التقرير شعرت بشيء من الكراهية لفكرة الحاسب الآلي ولعشرات برامجه التطبيقية في عالم الإحصاء. قلت لنفسي: هل نزل هؤلاء إلى الميدان وهل حاولوا معاشرة ومعايشة الواقع المؤلم في حياة مئات الآلاف من بناتنا، التي أصبحت فيها ورقة الشهادة الجامعية و«كرتونة» حتى ما فوقها مجرد ديكور على الجدار.

هل يدرك أصحاب هذه الدراسة ومخترعو هذه النسب أن حاملة الثانوية العامة من بناتنا لا حلم لديها على الإطلاق في العثور على أي وظيفة، وأن ما لا يقل عن عشرين مساراً تخصصياً جامعياً لا تختلف في شيء عن هدير وادي الرمة عندما ينتهي في رمال الربع الخالي. ألا يشعر هؤلاء بالخجل حين يصدرون دراسة من قلب دكاكين هيئة وطنية رسمية متخصصة يقولون فيها إن ثلث بناتنا لا يستغرقن سوى العام وما حوله، أكثر منه أو مثله إلا قليلاً قبل العثور على الوظيفة. ألا يدرك هؤلاء حجم الألم والمعاناة التي يشعر بها كل بيت وأسرة يعيشون معها «حياة عاطلة» جامعية ثم يصنعون الواقع المر بهذه الخزعبلات. وكل شوارعكم مما لا يقل عن ست سنين بعد الجامعة. ولو أنني مسؤول نافذ ثم قرأت مثل هذا التسويق الوهمي لأكثر أمراضنا الوطنية ألما ووجعاً في حياة هؤلاء لوضعت رجلاً فوق الأخرى وقلت لنفسي: كلها صبر سنة.

الخلاصة أن هؤلاء الذين يحصون ويرسمون ويخططون في الدور الأوسط من جهازنا الإداري هم قلب ونواة الكارثة. هم بالبلدي: شاهد ما شفش حاجة.