الفقرات الآتية ليست عن العمل السري الذي تتطلبه الجهات الأمنية والمخابراتية في العالم كله، وهو الذي تجمع العقول المتجردة على أهميته في الحفاظ على الأمن الوطني في أي بلد، بشرط التزامه بمعايير العدالة، وخضوعه للوائح دقيقة تحكم أداء العملاء السريين، وتجعل عملهم أخلاقياً.

هذه الفقرات عن العمل السري في المنظمات المحظورة والمرفوضة، سواء أكانت منظمات عصابية ذات أهداف مادية مصلحية كعصابات المافيا، أم كانت منظمات سياسية محظورة لأسباب تاريخية/‏أمنية، تتعلق بتاريخ هذه المنظمات الدموي، ونهجها التدميري، واستهانتها بحياة الإنسان، وعدم اكتراثها بمقدرات الأوطان؛ أي أنها عن العمل السري الذي يكفر فاعلوه بالأوطان بوصفها هويةً ودولةً حديثةً ومصيراً؛ لأنهم يؤمنون بأفكار وجماعات وتنظيمات تتجاوز الأوطان، وتمحو حدودها محواً يفضي إلى توزيع الولاءات في الجهات الأربع توزيعاً قاعدته الانتماء إلى التنظيم.

منذ قرأت كتاب: «سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين»، لثروت الخرباوي المحامي المنشق

عن الجماعة منذ 15 عاما، وأنا أقارن بين: أشخاصٍ وأحداثٍ وأقوالٍ تضمنها الكتاب، وأشخاصٍ وأحداثٍ وأقوالٍ أشهدها يومياً في محيطي، حتى أصبحت على يقين من أن الانتماء إلى الجماعات السرية يجعل النفاق صفةً رئيسةً ملازمةً لذلك المنتمي؛ وذلك بدهي، فهو منتم إلى تنظيم سري محظور، مما يحتّم عليه النفاق وإظهار ما لا يبطن، وأخص –هنا- المنتمي الخفي الذي يعمل في الخفاء - بإخلاص عجيب- على تحقيق أهداف المنظمة السرية، فيما يبدي في العلن عدم مبالاته بتلك المنظمة السرية، وقد يحاول إيهام المحيطين به بأنه لا وجود لها، وأنها لا تعدو أن تكون وهماً ناجماً عن «فوبيا» التنظيمات السرية.

ومن النفاق، وهو أبو التردّي الأخلاقي وأمه ومنطلقه وأساسه، ينحدر العميل السري -لأي جماعة محظورة- إلى حضيض الدناءة، فيرتكب جرائم أخلاقية أخرى دون أن يشعر بوخزة واحدة في ضميره، ودون أن يتذكر سوى نشواته بنجاح مؤامراته الخفية على وطنه مؤسساتٍ وأفراداً، ودون أن يسعفه ذكاؤه إلا باستحضار قدرته الفائقة على مخاتلة السلطات، وعلى خداع المجتمع، وعلى الإيذاء، وقطع الأرزاق، واتهام الخصوم بما قد يقود بعضَهم إلى السجون، والإفساد، والتعطيل، وزرع عوامل الشتات، وصناعة الاحتقانات الجماعية، وزيادة أسباب الكراهية، وابتكار التصنيفات الفكرية والمجتمعية والمذهبية، وغيرها من الجرائم الأخلاقية التي لا يراها كذلك ما دامت تحقق مصالح تنظيمه السري.

وعليه، فإذا كان نجاح العميل السري في التنظيمات السياسية المحظورة غير ممكن أبدا إلا من خلال النفاق، وهو الصفة التي تصغر عندها الصفات القبيحة كلها؛ فإن هذا العميل - بعد ارتضائه هذه الصفة لنفسه- لن يتورع عن ارتكاب أفعالٍ دنيئة أخرى، وجلها محاطة بأفعال منحدرة جدا بالمعيار الأخلاقي، مثل: الغدر، والخيانة، والمراوغة، واللؤم، والتلوّن، والنذالة، والكذب المستمر، والإيذاء الدائم.

العميل السري في التنظيمات السياسية المحظورة مملوء بالعقد النفسية الناجمة عن نوعٍ ناعمٍ من القمع الذي يمارسه قادة التنظيم ضده، ذلك أنهم يستمرئون إذلاله بالأوامر والتوجيهات التي لا يملك إزاءها سوى السمع والطاعة ثم التنفيذ، وهم يفعلون به ذلك لعلمهم بعجزه عن الحياة خارج إطار التنظيم عجزاً يشعره بالعبودية المتمثلة في الطاعة العمياء، والحرص على التنفيذ الدقيق دون مراجعة أو نقاش؛ ولذا فإنه ذو نفس منكسرة في حقيقتها، مما ينعكس على زيادة شهوة الإيذاء عنده.

سأطلق لخيالي العنان مستعيناً بما قرأته وشهدته، (والخيال أهم من المعرفة كما يقول آينشتاين)، ثم أحاول أن أتخيل نماذج لممارسات يمكن أن يفعلها هذا العميل السري ذو النفس المنكسرة، ضد الذين يحسدهم على ما ينعمون به من حرية واستقلال، فانكساره وعبوديته يجعلانه محتاجاً إلى أي شعور بالنجاح، ويجعلانه في حاجة شديدة إلى إشادات أسياده قادة التنظيم، وهو شعورٌ يتجاهل الأخلاقيات كلها بطبيعة الحال؛ لأنه يتغافل عن الألم الذي يسببه للآخرين، ويتناسى الضرر الوطني الذي يحدثه، في مقابل تعويض نقصه المتمثل في حاجته إلى الانتشاء السري مع نفسه، والمباهاة –سرا- بذكائه الخارق الذي يفوق ذكاء الأحرار المستقلين.

هذه الاحتياجات قد تقوده –مثلا- إلى الإيعاز لأحد الجنود الجدد الذين لمّا يحدد الناسُ انتماءَهم، بتبني حملة إعلامية ظالمة على مسؤولٍ مخلص لا يروق أداؤه لقيادات التنظيم لعدم اتساقه مع خططهم واستراتيجياتهم، أو حملة أشد ظلماً على كاتب مستقل، وقد يذهب إلى أبعد من ذلك، فيطلب من الجندي الصغير الجديد غير المعروف، تدبيجَ خطاب مملوء بالأسباب المقنِعة، ورفعه إلى صاحب قرار لاتخاذ إجراءٍ صارم ضد فلان، أو المطالبة بإقالة فلان، أو طلب محاسبة فلان، أو منع فلان من إلقاء محاضرة أو المشاركة في ندوة، وربما كان العميل السري نفسه هو كاتب الخطاب بأسلوب حجاجي مقنع وأنيق، لكنه لا يظهر في الصورة أبداً، بل إنّه قد يُظهر للمحيطين به تحسّره على ما آل إليه حال فلان بعد منعه أو إقالته، وقد يبدي اعتراضَه على القرار المتخذ ضد ضحيته فلان المسكين، وهذا الفلان يكون –في الغالب- من الخصوم الفكريين للتنظيم، ولا ذنب له سوى أنه مؤمن بوطنه وأهله إيمانا يجعل رأيه مختلفاً عن أدبيات التنظيم، وكاشفاً عن أفعال أفراده القبيحة وأساليبهم الرديئة.

ويبقى السؤال ممتدا ما بقيت هذه النماذج البشرية التي تخفي ما لا تعلن، وهو: ما الذي يجبر إنساناً سوياً على ممارسة الانفصام/‏النفاق؟