لنتخيل معاً، كيف يمكن أن تقوم في المستقبل، مدن خيالية، تُبنى بأحلام الطموحين، الذين لا يرون أن هناك أمراً يستحيل تحقيقه. فيتحرك داخل تلك المدن، الإنسان الآلي ذو الذكاء الاصطناعي، المبرمج بتقنية عالية المستوى، تجعله يتفاعل مع طلبات واحتياجات الإنسان الطبيعي، فيسخر ويسهل احتياجاته ومتطلبات حياته. ليس بضغطة زر، بل بلمسة زر، فزمن الضغط انتهى واندثر بعد الثورة التقنية. فنستطيع اليوم أن نتخيل، كيف سيبدو العالم في حياتنا أو حياة أبنائنا، أشبه بالخيال العلمي. إذا عملت جميع القطاعات في الدولة، على تحديث أنظمتها ورفعتها لذلك المستوى. فليس مستحيلا مثلاً أن يُصبح الكمبيوتر المحمول وتوابعه، مجرد تطبيق على هواتفنا الذكية، فإذا ما أحببنا أن نعمل على مشروع، علينا فقط أن نقوم بلمسة لتخرج شرائح العمل الضوئية، ذات الأبعاد الثلاثية والرباعية، لتُعرض في الفراغ أمامنا، وتمكننا من أداء أعمالنا واجتماعاتنا في أي مكان، وليس في غرف الاجتماعات المجهزة فقط. فإذا ما انتهى الاجتماع أو العرض، نقوم بلمسة أخرى في الهواء، لتُطوى المستندات الضوئية، وتنتقل في خيط رفيع، إلى صندوق البريد الإلكتروني للرئيس لأخذ توقيعه مثلاً، فإذا وصلت لبريده، تخرج له كشريحة مُضاءة بلون أحمر من هاتفه الذكي، أو حتى كمبيوتر منزله، وتظل معلقة في الهواء أمامه، إلى أن يوقعها بلمسة، تحولها للون الأخضر، قبل أن تُطوى وتعود إلى الهاتف أو الكمبيوتر. لإنهاء رحلة إجراء العمل بنفس الطريقة.

ولا أتخيل أن يحدث كل هذا، وبعض القطاعات المهمة، ما زالت تحسب أن التطور لا يتعدى التباهي بوضع شعار الرؤية فقط. بينما ترزح قطاعاتها، تحت وطأة التخلف التقني والروتين، وغياب الأنظمة وإجراءات العمل.

توجهت مواطنة لأحد البنوك المحلية، لفتح حساب ادخار لأبنائها، بعد أن طلبت اقتطاع مبلغ من راتبها الشهري، ليوضع في حساباتهم شهرياً. فرفض البنك الطلب، معللاً بأن النظام لا يسمح إلا للأب القيام بذلك، وحين مدت يدها ببطاقة الأسرة التي تحمل أبناءها، أصر موظف البنك، بأن أنظمتهم لا تسمح للأم، بفتح حساب لأبنائها، دون موافقة أبيهم. وحين احتد النقاش، قيل لها إن هذا ليس نظام البنك، بل مؤسسة النقد، وليس أمامها سوى اتباع الأنظمة، وإن كانت تريد اختصار الأمر، عليها أن تحضر (والد أبنائها) ليقوم بفتح الحساب بنفسه، وأخذ موافقته، على اقتطاع جزء من راتبها لأبنائها!!

وحين وصل الجدل بين السيدة ومسؤولي البنك لعنان السماء، لعدم واقعية الأمر، حسم مدير الفرع الجدل، وطلب من الأم أن تحضر «صك ولاية»، حتى يتسنى لها فتح الحساب بنفسها!

وفي الجوازات، ذهب شاب ليستخرج لوالدته وأخته تصريحا للسفر، بعد وفاة والده، فرفض موظف الجوازات طلبه، طالباً منه إحضار صك ولاية أولاً، فثار وغضب موضحا، بأن والدته هي من كانت ترعاه، وأخته هي من كانت تصرف عليه وما زالت، إلى أن تخرج، مع بقية إخوته، ولا يجوز أبداً أن يحصل على صك ولاية عليهما، لأن هذا يعد ظلماً لهما وتضليلا وكذبا، ونفسه لا تقبل أن تفعل بهما ما تمليه الأنظمة القديمة.

وفي المدرسة، حين حاولت امرأة تسجيل ابنتها، رفضت الموظفة اعتماد بطاقة الأسرة الخاصة بالأم، مُعللة بأن قوانين المدرسة، لا تسمح إلا ببطاقة الأب فقط، وحين وضحت المرأة بأن البطاقة صادرة من وزارة الداخلية ومعتمدة، طلبت منها «صك ولاية» لتعتمد التسجيل ببطاقتها!

ما يحدث، ليس بيروقراطية في المعاملات الحكومية، بل فشل ذريع وقصور من بعض المسؤولين في متابعة أعمال تلك القطاعات. حتى لو كانت تلك التصرفات، أخطاء فردية من بعض الموظفين، تظل أكبر دليل، على ضعف متابعة المسؤول، وغياب معرفته بأهمية تحديث الأنظمة وإجراءات العمل في الأماكن، التي من المفترض أن تقدم خدمات للمواطن، وليس التعطيل.

في نفس الوقت، يذكرنا هذا الأمر، بفترة ليست بالبعيدة، كان يقوم فيها بعض الأفراد المحسوبين على المجتمع، بتوزيع فتاوى في كل أمر لا يفهمونه أو لا يعجبهم، فحين لم يعجبهم تعليم المرأة، قالوا حرام، وحين لم يعجبهم الهاتف الذكي، قالوا حرام وهكذا. مثلهم مثل تلك القطاعات، التي لا تملك أنظمة مُحكمة ومرنة، قادرة على تلبية احتياجات وظروف الناس، فحين لا يجدون نظاما أو إجراءً معينا، يطلبون صك ولاية يحل لهم مشاكلهم. نفس تلك القطاعات، كانت قد أعلنت أنها حصلت على جوائز للتميز، في انتقالها للحكومات الذكية. فمتى رشحت نفسها للجائزة، وما هي المعايير لا ندري. كل ما نعرف، أنهم أصبحوا يقيمون أنفسهم، ويرشحون أنفسهم، ويهنئون أنفسهم بأنفسهم، في صور تذكارية، أُطلقت في الفضاء، لتملأ عقولنا بالغثاء والتضليل.

واختصاراً لكل هذا العناء والتعطيل، الذي يمر به الفرد، أثناء مراجعته لبعض الدوائر، لماذا لا تصدر وزارة العدل، صك ولاية لجميع الاستخدامات، يصلح لكل شيء، دام الصك أصبح حلاّل كل المشاكل!