أكتب هذا المقال التهويمي منطلِقاً من شعورٍ ذاتي بوجود خلل شخصي في التفكير تنبني عليه أغلاط كبيرة في الأحكام والاستنتاجات، وربما نتج عنه ظلم حقيقي للآخرين الذين أختلف معهم، وهو الخلل الذي أفكر كثيراً في تفسيره، وأعجز كل مرة عن إيجاد أسبابه، وعن معرفة كنهه، مما قادني إلى التفكير بصوت مسموع علّني أتلقّى أفكاراً تهديني، وتبعدني عن الأحكام الحدّية.

أشخّص حالتي من خلال التفكير بصوتٍ عالٍ، فأقول: إن اللغة ذات صلة وثيقة بالتفكير؛ لأننا نفكر بلغة، لكنها دون مستوى لغة التخاطب في وضوحها، وفي ترابطها، وفي التزامها بالقواعد، وذلك بدهي لكونها حديث إلى النفس المقتنعة بما تفكر فيه، مما يؤدي إلى استخدام الحد الأدنى من طاقات اللغة.

من هذا المنطلق، يكون التفكير الأعوج طريقاً إلى استخدام اللغة العوجاء التي ينتج عنها سوء فهم المراد إيصاله؛ بمعنى أن هناك خلطاً بين مستويات اللغة، وعنه تنشأ لغة عوجاء تفشل في أداء المعاني عند استخدام اللغة في مستوى آخر، وهو مستوى المخاطبة الهادف إلى تحويل لغة التفكير إلى لغة تواصل.

تنتقل خصائص لغة التفكير إلى لغة المخاطبة عندما يعبر الكاتب أو المتكلم عن موقفه العاطفي من الأشياء أو الأشخاص؛ ذلك أنه حين يصف شخصا أو شيئاً بأنه خبيث أو رديء، لا يصف في الحقيقة وصفاً موضوعياً محايداً، وإنما يعبر عن موقفه العاطفي، فربما كان الموصوف بالخبث والرداءة، موصوفاً بالنُّبل والجودة عند شخص آخر، ووصفه بالخبث والرداءة، أو بالنُّبل والجودة، لا يعدو أن يكون نقلاً آلياً للغة التفكير إلى لغة المخاطبة التي لا يمكن أن تصبح مدار اتفاق أو إجماع مهما اجتهد المتكلم أو الكاتب في الإقناع بها.

الكلام – هنا – عن المخاطبات المتعلقة بالقضايا الفلسفية والفكرية القائمة على الاختلاف بطبيعتها وفي أصلها؛ لأنها مرتبطة بالثقافات والاتجاهات المتباينة، إلا أن هناك قضايا يتحتّم بداهةً الاتفاق حولها، من مثل: التطرف والعصبية بابان مشرعان نحو القتل وسفك الدماء والإخلال بالأمن وصناعة العداوات، وعلى الرغم من ذلك، فهناك متطرفون ومتعصبون يستخدمون طاقات اللغة كلها في الاحتجاج لتطرفهم وتعصبهم، وفي الوقت نفسه يستخدمونها في التبرؤ من سفك الدماء والإخلال بالأمن، وهذا شكل من أشكال التفكير الأعوج التي أعنيها، وهي آتية من الإفراط في التفكير النظري الخاطئ إفراطاً يقود إلى العجز عن تشخيص أسباب الوقائع/‏ الواقع.

اللغة نفسها تفضي إلى التفكير الأعوج عند الاختلاف في تفسير الألفاظ، فلفظة «حرية» مثلاً، لا تؤدي المعنى نفسه عند أصحاب الاتجاهات الفكرية والفلسفية المتباينة؛ إذ هي عند دعاتها لفظة قيمية تحقق للفرد السعادة، ولها حد يقف عند عدم التجاوز على حريات الآخرين، فيما هي عند مناوئيها انفلات كامل من القيم والتقاليد، وخروج على التشريعات المقننة للحياة كلها، ومن هنا ينشأ عند الطرفين اعوجاج في التفكير يوسع هوة الخلاف، ويزيد في أسباب التوتّر، ثم يطوّرها لتصل إلى العداوة، فالمواجهة.

يعجز الطرفان كلاهما عن الوصول إلى تفسير توفيقي للفظة: «حرية»، مما يعني أننا أمام عجز لغوي في المقام الأول، وهو عجز استخدام طاقات اللغة في الإيصال نتيجة الاكتفاء بالقارّ في الذهن من معنى «الحرية»، أي الاكتفاء بمعناها في مستوى لغة التفكير، دون نقله إلى مستوى لغة التخاطب بشكل أكثر وضوحا، وذلك – أيضا – اعوجاج ثنائي في التفكير ناجم عن الصعوبات اللغوية التي تعترض الناس عند تعريف الأشياء، وعند الربط بين: المصطلحات، والمفاهيم، فالمصطلحات موجودة، غير أن المفاهيم مختلفة بحسب الاتجاهات الفكرية التي يتشبث بها أصحابها تشبثا هو اعوجاج التفكير عينه.

يحتاج التفكير المستقيم إلى قدرات نفسية هائلة، بها يستطيع المخاطِب التخلصَ من حمولات الخلاف، والتجرد من حظوظ الذات، والبعد عن الاحتجاج من أجل الانتصار وحسب، وصولا إلى الاحتجاج من أجل التوافق والتعايش والوصول إلى حد معقول من الاتفاق على المبادئ العامة التي تضمن للطرفين حياة آمنة خالية من أسباب التوتر والعداء، وهو ما لا يتحقق في ظل التمترس الفكري مهما اجتهد المتحاورون في محاولات الوصول إليه.

القدرات النفسية التي يحتاجها التفكير المستقيم تعني ببساطة التخلص من أدواء التحيز التي تجعل العقل يقرر النتائج سلفاً، والتحيز قد يكون لا شعوريا نتيجة خضوع العقل لفكرة المصلحة الفردية أو الفئوية، مما يتنافى مع أفكار: التجرد، والموضوعية، والعدالة، وهي نفسها مصطلحات تتباين مفاهيمها تباينا خاضعا للتحيز، وذلك يجعلنا ندور في دائرة ليس لها خط نهاية، وهي دائرة لغة التفكير الطاغية على لغة التخاطب.

أعود إلى البدء، فأقرر أنني أعاني من أحد أشكال اعوجاج التفكير، وقد حاولت إيجاد سببه، وبالرغم من ذلك لم أقبض عليه، فهل من معين يكشف عنه، تمهيداً للإمساك به، ثم الابتعاد عنه، من أجل الوصول إلى ضالتي، وهي: الموضوعية.