لعل كلمة السر أو بيت القصيد في احتفال بريطانيا بمئوية وعد بلفور هي «الفخر»، التي استخدمتها تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، بقولها: «نفتخر لدورنا في تأسيس دولة إسرائيل». وأيضاً بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني كتب: «إني فخور بدور بريطانيا في خلق إسرائيل، (...)، وبمرور مئة عام أقول: إني أؤمن به. تصريح بلفور كان ضروريًا لخلق أمة عظيمة. في العقود السبعة منذ قيامها، تغلبت إسرائيل على ما كان أحيانا عداء مريرا من جيرانها، وأصبحت ديمقراطية ليبرالية واقتصادا تكنولوجيا نموذجيا. في منطقة عانى فيها الكثيرون من حكم تسلطي، برزت إسرائيل دوما كمجتمع حر».

وأرجع جونسون مصدر فخره إلى أنه تطوع في شبابه في كيبوتس، وقام بغسيل الأواني، وفهم معجزة إسرائيل المتمثلة في: «العلاقة بين العمل والكد، والاعتماد على الذات والطاقة الجريئة والمصممة، والتي اجتمعت معًا لتخلق دولة استثنائية. وفوق كل شيء، الهدف الأخلاقي غير القابل للشك: توفير وطن آمن ومحمي للناس المضطهدين».

وعزز فخره ببلفور بذكره جهود ومساهمات أسلافه التي شكلت محطات في مسار تسوية القضية الفلسطينية، ومنهم: اللورد بيل، وتقرير لجنته لعام 1937؛ (حل الدولتين)، واللورد كردون الذي صاغ القرار 242 في نوفمبر 1967 (مبدأ الأرض مقابل السلام). وتناسى السير هنري مكماهون لكنه أكد أنه «بمرور مئة عام، بريطانيا ستدعم بقدر استطاعتها إغلاق الدائرة، وإنهاء العمل غير المنتهي لتصريح بلفور».

وترافق «الفخر» البريطاني مع رفض حكومة لندن عريضة رفعها 13637 كاتبا وسياسيا بريطانيا، تطالبها بالاعتذار عن وعد بلفور، وردت الحكومة عليهم بالتصريح التالي: «إن إعلان بلفور بيان تاريخي لا تنوي حكومة صاحبة الجلالة الاعتذار عنه، بل نحن فخورون بالدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل. وكان الإعلان قد حرر في عالم يشهد تنافسا بين القوى الإمبريالية، في أوج الحرب العالمية الأولى، وفي ساعة أفول شمس الإمبراطورية العثمانية. في مثل هذا السياق، كان تأسيس وطن للشعب اليهودي في الأرض التي ربطتهم بها أواصر تاريخية ودينية قوية هو الإجراء الصائب والأخلاقي، وخاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار ما عانوه لقرون من اضطهاد».

ولم يشذ عن الموقف الرسمي البريطاني السائد إلا إقرار وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو الذي أقر في مقابلة مع مجلة «نيو ستيتمان» الأسبوعية في 15 /11 /2002 بمسؤولية بلاده التاريخية عن كثير من النزاعات الحالية في المنطقة العربية، وخاصة القضية الفلسطينية والنزاع بين الهند والباكستان حول إقليم كشمير من خلال قوله: «إن الكثير من النزاعات الحالية بين الدول هي من نتائج ماضينا الإمبريالي، وينبغي علينا تسويتها». وأقر أن بلاده أعطت وعد بلفور لليهود، حيث وعدهم بوطن في فلسطين، وفي الوقت نفسه منحت ضمانات متناقضة لكل من الفلسطينيين واليهود. وهذه الأشياء تمثل تاريخاً مهماً لنا، لكنه ليس تاريخا مشرفا. ويُضاف إلى هذا التصريح البريطاني المتأخر الذي لم يرفق ببذل أي جهد سياسي حقيقي لإلغاء بعض آثار تصريح بلفور عن كاهل الشعب الفلسطيني، تصويت أعضاء مجلس العموم البريطاني عام 2014 على الاعتراف بدولة فلسطين. وهذا التصويت الهام لم يشكل بداية لصحوة الضمير البريطاني، ولموقف أخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني لرفع الظلم التاريخي الذي لحق به.

 وقد حاول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد، وأحد المؤرخين الجدد، آفي شاليم، التشكيك في مصدر «الفخر» البريطاني بقوله: «لا يمكن لأحد أن يجادل في أن بريطانيا مذنبة بممارسة النفاق والازدواجية والخداع. إلا أن السؤال الذي ينبغي أن يطرح الآن هو: هل عادت هذه السياسة اللاأخلاقية على بريطانيا بمكاسب حقيقية؟ إجابتي القطعية على هذا السؤال هي: لا لم تعد عليها بشيء مفيد على الإطلاق. ولقد كان إعلان بلفور عبئا كبيرا أثقل كاهل بريطانيا منذ أن بدأ الانتداب وإلى أن وصل إلى نهايته المخزية في مايو من عام 1948».

وفي كتابها القيم «لحظة بريطانيا في الشرق الأوسط» Britain’s Moment in the Middle East، قدمت إليزابيث مونرو حكما متوازنا بقولها: «إذا أردنا أن نقيس ما جرى فقط من خلال المصالح البريطانية، فقد كانت تلك من أفدح الأخطاء التي ارتكبناها في تاريخنا الإمبريالي. ويمكن للمرء من خلال الإدراك المتأخر أن يخلص إلى أن إعلان بلفور كان في الواقع سقطة استراتيجية هائلة. وكانت ثمرته النهائية هي تمكين الصهاينة من الاستيلاء على فلسطين، وهو استيلاء مازال حتى يومنا هذا يأخذ شكل توسع استيطاني غير قانوني، ولا يعرف الشفقة في كل أنحاء الضفة الغربية على حساب الفلسطينيين».

عموماً، الدول لا تعتذر أو تغير سياساتها طواعية وبرضاها ونتيجة صحوة ضمير، بل عندما تصبح كلفة عدم الاعتذار أكبر بكثير من الاعتذار، أي حسابات المصلحة والكلفة والمردود السياسي.