الكتابة عند الفقد من أصعب أنواع الكتابة، ذلك أنها تحتاج إلى صدقٍ يوازي الألم، ولغة قادرة على مواكبته والتعبير عنه، فليس التعبير عن الفقد ثناء مجردا على المفقود، وبخاصة حين يكون صديقا أو قريبا أو حبيبا أو إنسانا ذا أثر إنساني ظاهر.

أزعم أن بعض القدماء لم يستوعبوا هذه الصعوبة عند تعاملهم مع فن الرثاء، وهذا ما جعل ناقدا كابن رشيق يقول: «ومن أشد أنواع الرثاء صعوبة على الشاعر أن يرثي طفلا أو امرأة، لضيق الكلام عليه فيهما، وقلة الصفات»، وهو قول ينظر إلى الرثاء من زاوية واحدة، لا تكاد تفرق أو تفصل بينه وبين المديح، كما يرى قدامة بن جعفر، وهي الفكرة نفسها التي يشرح بها اللغويون معنى لفظة «رثاء»، يقول ابن منظور: «الرثاء لغة البكاء على الميت ومدحه، يقال: رثى فلان فلانا يرثيه رثيا ومرثية، إذا بكاه بعد موته. فإن مدحه بعد موته قيل: رثاه يرثيه ترثية. ورثيت الميت رثيا ورثاء ومرثاة ومرثية، ورثيته: مدحته بعد الموت وبكيته. ورثوت الميت أيضا، إذا بكيته وعددت محاسنه، وكذلك إذا نظمت فيه شعرا»، فربما كان اعتماد النقاد القدماء على المعنى اللغوي للفظة، سببا في جعلهم المدح والرثاء غرضين متشابهين، على الرغم مما بينهما من فوارق كثيرة، تتمثل في: اختلاف الدافع، وتباين مستوى الصدق، واختلاف الحالة الشعورية عند الراغب الطامع، عنها عند الفاقد المفجوع، وهو تباين يكون أكثر وضوحا في رثاء الأقارب والأصدقاء.

بعد حادثة سقوط الطائرة التي كانت تقل نخبة من المخلصين في منطقة عسير، وفيهم أصدقاء عمر، ورفقاء مرحلة، كمحمد المتحمي، وخالد الحميد، وفيهم أمير أجمعت القلوب على حبه، رحمهم الله جميعا، أقول: بعد هذه الحادثة لم أستطع أن أكتب حرفا واحدا، ولم أستجب لأي طلب إعلامي أو صحفي يتعلق بالحادثة، مكتفيا بالبكاء منفردا، ومحاولا إيجاد سبب نفسي للعجز عن الكلام حول فاجعة ينبغي -ظاهريا- الحديث عنها، ويمكن -ظاهريا- الحديث عنها، إلا أن ذلك دخل إلى دائرة المستحيل، وصدق عليه القول: «لا أستطيع أن أعبر لك»، وهو قول يشي بهول المصيبة، وحجم الفاجعة، ولذا فإن النجاح في التعبير عن الفقد بعد المرور بتجربة شعورية مؤلمة إيلاما حقيقيا، مطلب عزيز، وإن تحقق فسيكون المكتوب في أعلى درجات الجودة، يفسر ذلك عبارة أوردها الجاحظ لأعرابي أدرك أن الرثاء الصادق لا يصدر إلا عن تجربة واقعية، «... قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأننا نقولها وأكبادنا تحترق».

حين قرأت قول ابن رشيق أعلاه، قلت في نفسي: ألم يفقد ابن رشيق عزيزا يتعلّم بالحزن عليه أن الرثاء شيء مختلف اختلافا كاملا عما في ذهنه، ولكن قوله يهون أمام رأي قدامة بن جعفر، الذي جعل المدح والرثاء شيئا واحدا، فقال: «ليس بين المرثية والمدحة فصل، إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لميت، مثل: كان، وتولى، وقضى نحبه، وما أشبه ذلك»، ووافقه في هذا ابن رشيق القيرواني، حين قال: «وليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود ميت، مثل: كان، أو من مناقبه كيت وكيت، وما يشاكل هذا، ليعلم أنه ميت»، وهي أقوال جافة تنظر إلى ظاهر اللغة فقط، وتتجاهل الحالة الشعورية، والباعث على القول لكل من المادح والراثي، وتنظر إلى المعنى الشعري العام، دون جوهر الشعر، وإلى شكله، دون دوافعه، ذلك أن هناك بونا شاسعا بين التجربة الشعرية في الحالين، لأن المدح قد يكون صادرا عن الإعجاب أو الطمع، بينما يصدر الرثاء عن فجيعة ولوعة وأسى وإحساس عميق بالفقد، كما أن هذه الأقوال تغفل أنواعا أخرى من الرثاء، مثل: رثاء النفس، ورثاء المدن والممالك الزائلة.

وأمام العجز عن الكتابة عن الفقد، أحاول تفسير قدرة بعض الشعراء على الرثاء، خاصة عند رثاء الشخصيات العامة التي لا يعرفون عنها سوى الظاهر، لأجد أن هؤلاء يؤبّنون ولا يرثون، ويشيدون ولا يتألمون، ذلك أن الباحثين في الرثاء يفرقون، فيه بين ثلاثة ألوان هي: الندب والتأبين والعزاء، ويجعلون الندب خاصا ببكاء الأهل والأقارب، حيث يظهر هول المصاب، ومقدار الفقد، فيما يكون التأبين أقرب إلى الثناء منه إلى الحزن والتفجع، قال ابن سلام الجمحي: «التأبين مدح الميت والثناء عليه»، أما العزاء فهو كما يقول الدكتور شوقي ضيف: «مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين، إذ نرى الشاعر ينفذ من حادثة الموت الفردية التي هو بصددها إلى التفكير في حقيقة الموت والحياة»، بمعنى أنه تأملات لا علاقة بالتجربة الشعورية سوى علاقة الاستدعاء والقدح.

الكتابة الصادقة عند الفقد بكاء لغوي خالص وخاص، لأن الحديث عن شخصية الميت القريب وصفاته ومنجزاته ليست أولى بالقول من الحديث عن ألم الفقد، ذلك أن من البدهي أن تكون صفات شخصية الصديق أو الأب أو الأم أو الابن أو الابنة أو الأخ أو الأخت حسنة في عين القريب وليس هناك ما يستدعي استحضارها، بقدر أهمية التعبير عن آلام الفقد، وهو ما عجزت عنه لغتي القاصرة حتى الآن.