الهمّ الشاغل في أوساط خلايا التفكير والبحث في واشنطن اليوم، هذا السؤال البسيط: ماذا يحدث في المملكة؟

هل نحن بإزاء «سعودية» جديدة وهيكل تنظيمي للدولة، أم أننا أمام «نهضة» جديدة ستغير المنطقة؟

في تصوري أن الدهشة التي تعلو الوجوه من حولي، نتيجة للأخبار المتواترة والمتسارعة باتجاه التغيير في المملكة، تعود إلى ما أسماه الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» بـ(الحدث) الذي استطاع اجتياح المجال العام والحياة العامة، وقد نجح في استحداث تاريخ مفصلي غير مسبوق.

فقد أصابت قرارات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الآلة المفاهيمية والدلالية التأملية لكثير من المحللين في الغرب عموما، وأميركا على وجه الخصوص، وهي «الأداة» التي كان من شأنها أن تتيح التنبؤ بما حدث، وبالتالي فهمه وتأويله ووصفه وتفسيره.

وهو أمر يدخل في مجال التحليل النفسي للآلة المفاهيمية الغربية أكثر من كونه إشكالية في الفلسفة السياسية المعاصرة: لماذا لا يتوقع المحللون والباحثون في الغرب أن يأتي التحديث من «الشرق» أبدا، وبمعنى أكثر دقة

من قلب العالم العربي - الإسلامي؟. المملكة العربية السعودية!

«دانيال سيبوني»، أحد المحللين النفسيين المعاصرين، فسر لنا هذه الحالة بالتفصيل في كتاب ضخم، ثلاثة أجزاء، عنونه بـ«أحداث»، يقول: (الحدث هو الاصطدام الذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللقاء الصّادم مع الواقع، فإن الأحداث التي لا نتعجّب من وقوعها وإنما من عدم تنبئنا بوقوعها، تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقع حدوث «كلّ شيء» حتّى لا يحدث «شيء» فلا يحدث لنا «أيّ شيء»).

المبادئ والأفكار التي شكلت «الحداثة» في عصر النهضة، كما رصدتها في كتابي «الفكر اليوتيوبي في عصر النهضة الأوروبية» لم يتوقع لها أن تنجح أبدا -حتى من قائليها- فضلا عن أنها لم تكن لتنجح دون «إرادة سياسية قوية»، وهو ما كانت تفتقد إليه أوروبا لقرون طويلة امتدت إلى أكثر من ألف عام.

ما يؤكد أن «الحداثة» كتطبيق وليس كفكرة أو نظرية هي إرادة سياسة بالأساس، ويحتفظ لنا التاريخ ببعض النماذج اللامعة، لكنها نادرة في مسار الحضارة الإنسانية، فقد تميز «فريدريك الثاني» (1712 – 1786) ملك بروسيا الشاب، بالذكاء الخارق والدهاء في الحملات العسكرية، وشغفه في الوقت نفسه بالفلسفة والآداب والفنون والعلوم وحماية المفكرين التنويريين وتقريبهم إليه حتى صار يعرف بـ«فريدريك العظيم»، وهو الذي دشن أهم مقوم من مقومات الحداثة والتنوير في الغرب: «سياسة التسامح الفكري والديني» و«الانفتاح على الآخر»، واعتبرها «قاعدة الحكمة السياسية».

ويمكن أن نستخلص من هذه النماذج التاريخية دروسا عديدة، منها:

أنها تظهر عادة تلبية لحاجة وجودية وتاريخية ملحة، وهي الخروج من أزمات حادة تعصف بمجتمعاتها، وتتخذ قرارات وإجراءات جذرية غير مسبوقة تغلب العقل على العاطفة والموضوعية على الذاتية والمستقبل على الماضي.

الأطروحة المركزية للحداثة عند ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في القرن الحادي والعشرين -في تصوري- تستمد معظم مقوماتها من أحدث ما وصل إليه العالم الأول اليوم ومن الإسلام العصري أيضا، وهي القبول بمبدأ الواقع، أي التجاوب مع متطلبات الحداثة المتجددة بتناغم مع الدين المستنير القائم على الاجتهاد بدون ضفاف،عملا بقول الشاطبي «حيث المصلحة فثم شرع الله».

المشكلة التي كانت تواجه التحديثيين غالبا في مجتمعاتنا العربية تكمن في تخلف منظومة القيم والتشريعات القانونية عن التطورات المتسارعة داخل هذه المجتمعات على أكثر من صعيد، رغم أن المعروف أن النظم والقوانين «حاجة اجتماعية أساسا».!

هذه الهوة بين الواقع الاجتماعي والقوانين والنظم والتشريعات تحتاج دائما إلى شجاعة استثنائية من صاحب القرار وإرادة سياسية قوية، حيث أثبتت التجارب التاريخية أن جرأة اتخاذ القرارات التقدمية التي تنسجم مع تطلعات المجتمعات إلى التنمية والتقدم والمستقبل، تمثل «الحصانة الكبرى» والضمانة الأكيدة.

من هنا كانت رؤية 2030 لولي العهد والقرارات المتتالية التي اتخذت وفقا لهذه الرؤية أكثر قوة وتقدما من المنظومة الثقافية السائدة في المجتمع ومن الواقع الاجتماعي - الاقتصادي نفسه، وربما كانت السرعة الخاطفة لها هي ما أربكت الآلة المفاهيمية للمحللين في الغرب، وما يبعث على الطمأنينة في كل ذلك أن المجتمع السعودي «مجتمع شاب»، حيث ثلثي التعداد تقريبا من الشباب، وهم بالفعل الأقدر على التعاطي السريع مع هذه الرؤية ومع الحداثة والتحديث وآفاقه وتطبيقاته.