يقوم النظام السياسي الأميركي في جوهره على مبدأ «الرقابة والتوازن»، إذ يقيد الدستور الأميركي المؤسسات السياسية عبر إعطاء غيرها صلاحيات رقابية، وفي الوقت ذاته يضمن عدم التغول في استخدام تلك الصلاحيات.

فتم توزيع الاختصاصات والصلاحيات بين السلطات الثلاث «التشريعية، والتنفيذية، والقضائية» على نحو لا يسمح لأي منها بالانفراد بصنع القرار.

وبذلك، أصبحت العلاقة بين مؤسسات الدولة لا تقوم فقط على الفصل بين السلطات، وإنما أقرب إلى علاقة «مؤسسات منفصلة تتقاسم السلطات».

ويرى الرئيس الأميركي السابق توماس جيفرسون، أن امتلاك الحكومة وتحكمها في الجيش الرسمي، يعد وسيلة للاستبداد، بينما وجود الميليشيات الوطنية المسلحة المدنية يُجبر الحكومة على أخذ الإرادة الشعبية بعين الاعتبار.

وقد قدرت صحيفة الإندبندنت البريطانية عدد الميليشيات الأميركية المسلحة بنحو 42 ميليشيا عام 2008، وقفز عددها إلى 276 ميليشيا مسلحة عام 2015، وهو رقم أثار قلق سلطات الأمن الأميركية التي دخلت في أكثر من صدام مع تلك الجماعات المسلحة على أراض فيدرالية.

وأحصى المركز القانوني الجنوبي الخيري الأميركي (Southern Poverty Law Center)، وهو جمعية تكافح التطرف، 623 مجموعة معادية للحكومة في الولايات المتحدة بينها 165 ميليشيا في عام 2016.

ويقول الباحثون في مركز قانون الفقر الجنوبي، كان هناك عامل عرقي جديد يعكس عرقية الرئيس أوباما ومخاوف الهجرة. وتعتقد باحثة في شؤون الميليشيات في المركز المذكور أن هذه المجموعات يجمعها الترويج للمؤامرة، وهوس حمل الأسلحة والخوف من نظام عالمي جديد، يرون أنه يسيطر على الولايات المتحدة.

أما المحافظون، فقد اتهموا مركز قانون الفقر الجنوبي وجماعات رصد أخرى بالمبالغة في التهديد الذي تشكله هذه المجموعات.

وتعود شهرة ميليشيا ولاية ميتشيجان هذه، إلى أن منفذي الهجوم على المبنى الفيدرالي عام 1995 في أوكلاهوما هم من أعضائها، وأسسها «نورمان أولسون» الضابط السابق في سلاح الجو عام 1994، كما أن منظمة السلاح الأميركية NRA تُعدّ أقوى جماعة ضغط في واشنطن، وذلك حسب مجلة Fortune، فعدد أعضاء المنظمة يزيد على 4.3 ملايين، يشكلون داعما أساسيا للحزب الجمهوري الذي يحظى بكل أشكال الدعم والمساندة من أعضاء هذه المنظمة خلال الانتخابات الأميركية.

ومنذ بداية هذا العام الحالي وحتى السادس من نوفمبر الجاري، أشار أرشيف عنف السلاح، وهو شركة لا تهدف إلى الربح أُسست عام 2013، إلى أن الولايات المتحدة شهدت 307 حوادث إطلاق نار جماعي، راح ضحيتها 13616 شخصا، منهم 530 مواطنا أميركيا لقوا مصرعهم في تلك الحوادث.

ووفقا لمراكز مكافحة الأمراض، بلغ إجمالي عدد وفيات الأسلحة داخل الولايات نحو 33 ألفا سنويا، 60% من خلال الانتحار و36% من جرائم القتل، وشكلت عمليات القتل الجماعي نحو 2% من إجمالي وفيات الأسلحة سنويا.

وعلى غرار حق تشكيل الميليشيات يستند انتشار الأسلحة النارية بين الأميركيين على حق دستوري يضمنه التعديل الثاني للدستور الأميركي، الذي ينص «حيث إن وجود ميليشيا منظمة تنظيما جيدا ضروري لأمن دولة حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها».

وثمة تساؤل مفاده: لماذا لا تستطيع الإدارة الأميركية تمرير قانون يرشد ويسيطر على حق حمل السلاح، لكبح تصاعد أعداد ضحاياه من الأبرياء، وأيضا كبح سرطان انتشار الإرهاب الداخلي؟

طبعا، هناك أسباب رئيسية حالت في الماضي وتحول في الوقت الراهن دون تمرير تشريع أميركي يفرض قيودا على الحق الدستوري بامتلاك السلاح الشخصي، ومن ثم الحد من عمليات القتل الجماعي للأميركيين، التي تفوق نسبتها داخل الولايات المتحدة نظيرتها من الدول الغربية والمتقدمة. ويتمثل ذلك السبب الأكثر أهمية في وجود «لوبي» أي جماعة ضغط قوية تدافع عن الحق الدستوري لحمل السلاح، وتقف ضد أي محاولة لفرض قيود على بيع الأسلحة الشخصية أو الذخيرة داخل الولايات المتحدة.

وقد نجح هذا اللوبي في مواجهة جميع المحاولات السابقة لفرض قيود على هذا الحق. وتتزايد قدراته التأثيرية لامتلاكه قاعدة عريضة من المؤيدين الملتزمين بالدفاع عن حق حمل السلاح، ولهم دور مؤثر في الانتخابات الرئاسية والتشريعية «انتخابات مجلس الشيوخ والنواب»، إذ يرفضون التصويت للمرشح الذي يدعو أو يدعم فرض قيود على الحق الدستوري بشراء الأسلحة الشخصية.

ومن أهم منظمات هذا اللوبي التي يسمح لها النظام السياسي الأميركي بلعب دور مؤثر على صانعي القرار الأميركي من التنفيذيين والتشريعيين، الجمعية الوطنية للبنادق، والتي يصل عدد أعضائها إلى خمسة ملايين أميركي، ويتجاوز دورها المؤثر في دهاليز الحكم الأميركي جماعات الضغط التقليدية مثل اللجنة الأميركية- الإسرائيلية للشؤون العامة (AIPAC) ومنظمة المتقاعدين الأميركية (AARP).

كما أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في 22 يونيو من العام الحالي أن 74% من الذين يمتلكون أسلحة داخل الولايات المتحدة يرون أنها ضرورية لحريتهم الشخصية، في حين يرى 35% من الذين لا يملكون أسلحة الأمر ذاته.

وتشير أيضا إلى أن غالبية الأميركيين (66%) لديهم أكثر من قطعة سلاح، في حين قال 32% إن لديهم قطعة سلاح واحدة، والغالبية (67%) من الأميركيين تقتني السلاح من أجل الحماية.

ولذلك، لا يتمثل فشل القانون الأميركي في مواجهة الميليشيات والرصاص الطائش في قصور وعيوب نصوص القوانين ومصالح المشرعين وأصحاب مصانع السلاح. بل أيضا في انتشار ثالوث العنف والكراهية والعنصرية في جميع الولايات الأميركية بنسب مختلفة.