عادة ما يتناول بعض الكتاب قضية الهجرة الداخلية بإلقاء اللوم على المهاجرين أو على سوء التنظيم وحده، دون الإلمام بالمعطيات الاقتصادية المؤدية لتلك الهجرات. وعادة ما يتم تناول قضايا الاستثمار السياحي في مناطق المملكة دون الإلمام بالصعوبات الاستثمارية القائمة على قوانين العرض والطلب وعلاقتها بالتكوين الاجتماعي.

المدن الرئيسية الكبرى في السعودية هي الرياض وجدة والدمام، وقد ازداد تعدادها السكاني بسبب وفرة فرص الأعمال، وقد نشأت هذه الفرص لأسباب، فجدة كانت قبل النفط هي الميناء البحري وبوابة العاصمة المقدسة، وتمكنت الدولة من زيادة استثمار هذه المعطيات، أما الدمام مع الخبر فهي عاصمة مصافي النفط، أما الرياض فهي عاصمة اتخاذ القرار ومركز الدولة، وفرص العمل الحكومي على وجه الخصوص. كما أن السعودية من الدول القليلة التي يتوزع عدد سكانها بنسب ضئيلة على مساحة شاسعة مترامية الأطراف بين المدن الصغيرة والقرى والهجر، ولم تفرض الدولة على هؤلاء السكان تغيير مواقعهم، وفي نفس الوقت فهناك تحديات جسيمة أمام أي دولة لتوفير مدن نموذجية متكاملة في هذه المساحة ومع هذا التوزيع.

أيضا من حق أي مواطن أن يختار مكان إقامته وفقا لفرص الحياة التي توفرها الدولة، ولو كان هناك خيار لعاد الكثير من المهاجرين لمواقعهم الأصلية، ولكننا بحاجة لتغيير بعض التصورات السائدة تجاه قضية الهجرة الداخلية ومعها الاستثمار السياحي.

لو نظرنا إلى مدينة مثل الباحة ورغم ما تملكه من مقومات سياحية طبيعية إلا أنها تظل من المدن الصغيرة في التعداد السكاني، وذلك بسبب ندرة فرص العمل مقارنة بمدن مثل الرياض أو جدة، وهو ما يجعل حتى من مستوى الجامعات والمستشفيات أقل من مستوى المدن الرئيسية الأكثر جذبا، وهذا هو الأصل عالميا، كما أن هناك صعوبات محلية في الاستثمار السياحي في هذه المدن، لأن السياح في أغلبهم إما من المواطنين ونسبة قليلة من الخليجيين والمقيمين العرب، أو من أهل المدينة المهاجرين للمدن الرئيسية، فطبيعة سياحة وزيارة هؤلاء محدودة وغير متكررة، وعادة ما تكون اجتماعية، ولذلك نجد أن معظم الفنادق والمشاريع السياحية تواجه أزمة عدم انتظام الزوار طوال العام، إضافة للعائق الأهم وهو العائق الاجتماعي المحلي الذي يزيد من صعوبة فتح السياحة الخارجية المنتظمة للأجانب، وهو التحدي الذي يشمل كافة مدن المملكة.

التحدي الذي يواجه الدولة للسيطرة على الهجرات الداخلية يكمن، وقبل كل شيء، في الحاجة لمزيد من التوسع للمدن الكبرى، فمدينة الرياض يسكنها أكثر من 8 ملايين، وتملك فرصا كبيرة للتوسع الجغرافي، ولا يقارن تعدادها السكاني الحالي بالانفجار السكاني الضخم لعديد من المدن مثل شنغهاي أو كراتشي أو إسطنبول، فالأخيرة تصل لنحو 15 مليونا من السكان وفي شوارع أغلبها ضيقة ومساحات سكنية صغيرة مقارنة بالرياض، وهذا الحل يعد أهم وأكثر جدوى من الاستثمار في المدن الصغيرة التي يتوسع بعضها نسبيا في استقطاب عدد محدود من المهاجرين مثل حالة جازان، وذلك بسبب المشاريع الجديدة للاستثمار في النفط.

أما التحدي الذي يواجه المشاريع السياحية، خاصة في منطقة الجنوب التي تتميز بشكل استثنائي مقارنة ببقية المناطق بالأجواء المعتدلة وجمال الطبيعة، فيكمن في الحاجة إلى إحداث تغييرات اجتماعية تشمل مجمل الثقافة المحلية، وذلك لاستقطاب السياحة الخارجية طوال العام، إضافة إلى زيادة الاستثمار في المشاريع الصناعية القائمة على استثمار موارد المنطقة الطبيعية والخدمية مع بناء مشاريع سياحية استراتيجية تقودها أعلى سلطات الدولة ولا تقوم على المبادرات الفردية للمستثمرين، فهناك محاولات عديدة غير مجدية اقتصاديا، مثل بناء عدة مشاريع تلفريك ومراكز ترفيه وفنادق قد أغلقت أبوابها لندرة العملاء، وهو ما يفسر أيضا سبب ارتفاع أسعار الفنادق القائمة.

في نفس الوقت فلا بد أن تكون هناك فروقات بين بعض المدن، تتعلق بالحاجة للاستثمار في مناطق القوة، فمدينة الرياض يجب أن تزداد في توسعها، وهو ما ينعكس إيجابا على الاقتصاد المحلي، من خلال تطوير نقاط الجذب التي تقوم فيما تقوم عليه بالتقاء الخبرات، أو من خلال بناء مناطق قوة جديدة مثل مدينة «نيوم» بناء على معطيات مختلفة، منها الحاجة لتأسيس مدينة اقتصادية مثالية تقوم على أسس مستقبلية، أو بناء على معطيات الموقع الجغرافي الاستثنائي الذي يلتقي مع طريق الحرير الجديد.

خلاصة القول، أن هناك معطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية تتحكم بحالة الهجرة الداخلية واحتياجات الاستثمار السياحي، يجب أن تكون هي المنطلق الأساسي لرؤيتنا للقضية قبل تمني ما هو غير منطقي، كحالة من يطالب بتطوير السياحة مع رفضه السينما والحفلات، أو من يطالب بإنشاء جامعة كبرى في إحدى الهجر.