أنطلق في هذا المقال من مراجعاتٍ ذاتية، ووقفات تأملية طويلة مع النفس، ولذا فإنه موجه إلى كاتبه أولا، وإلى أمثاله الذين يعانون من سيطرة فكرةٍ واحدة يبنون عليها استنتاجاتهم كلها، وذلك – كما أجزم بعد تجربة طويلة – عيب كبير، يفضي إلى إهدار العقل في حوارات وتحليلات ذات نتائج خاطئة؛ لأنها قامت في الأصل على افتراضات خاطئة لا تتحقق فيها شروط الفرض المنطقي، ولا شروط الفرض العلمي، وإنما هي خيالات واجتهادات يصيب بعضها، ويخطئ بعضها الآخر، وهي إلى الخطأ أقرب منها إلى الصواب.

في الفكر، وفي العلوم الإنسانية جميعها: كل فرضٍ يحتمل الصحة، ويحتمل الخطأ أيضا، وعلى هذا فإن العدول عن الفرض المشكوك في صحته هو النزاهة عينها، وهو حرية التفكير ذاتها؛ لأن الإصرار على إثبات فرض غير صحيح مغالطة حقيقية للعقل الذي يتبناه، وللذات التي يُفترض أن تكون موضوعية ما دامت اختارت الخوض في مجالات الفكر والمعرفة.

التشبث بالفرض المشكوك في صحته يعني الخضوع لفكرة واحدة، ثم محاولة تفسير الأحداث والأفعال والأقوال والتحولات على أساس صحتها، ومن ثم يصل المحلل أو المفكر، أو المثقف، أو الكاتب، أو الباحث أو صاحب الرأي إلى نتائج بعيدة البعد كله عن الصحة، وبعيدة البعد كله عن الواقع، وما ذاك إلا لأنه انطلق من مُنطلَقٍ خاطئ أفضى به إلى نتائج خاطئة.

من الأمور التي لا يتنبه لها كثير من المتشبثين بفكرة واحدة يبنون عليها آراءهم كلّها – وأنا أحد هؤلاء المتشبثين لكنني أحاول الانعتاق – أن هناك فارقاً جوهرياً بين أن يكون الإنسان مؤمنا بفكرةٍ يدافع عنها، ويكرس جهوده القرائية والكتابية لها، ويكتب ويحلل كي يثبتها، وبين أن تصبح حياة هذا الإنسان وعلاقاته وحبه وكرهه مرهونة بالاتفاق أو الاختلاف معه في أصلها وصحتها، أو حول بعض تفاصيلها.

حينما تصبح الفكرة الواحدة مهيمنة على العقل، يتحول الإيمان بها إلى شيء يشبه العبودية؛ ذلك أنها توجهه ولا يوجهها، وتأمره ولا تستأمره، وتقوده ولا يقودها، حتى إنه يصبح خاويا بدونها، وجاهلا بغيرها، وتلك نتيجة بدهية لكونها استنزفت عقله، وأهدرت أوقاته في سبيل إثباتها والانتصار لها، ولا عبودية كهذه العبودية.

ومن خلال التجربة، أدركتُ أن الإصرار على الفكرة الواحدة، والتمسك بالموقف الفكري الواحد تعصبا له، وكرها لأضداده، عادة ممقوتة تأسر العقل وتقيده، فضلا عن أنها تصنع لصاحبها عداوات نفسية هو في غنى عنها؛ إذ يصبح المختلفون معه حول صحة فكرته أشرارا وأعداء وجاهلين، وهم ليسوا كذلك في الواقع، لكنهم كذلك في مخيلته المندفعة نحو فكرته الواحدة، ولذا يمارس مع المختلفين معه الاستعداء والتشويه والمصادرة والتجهيل وربما التخوين، لمجرد أنهم يختلفون معه حول فكرته الأثيرة اختلافا جزئياً أو كاملاً.

من المسلّمات أن إيمان الإنسان بفكرة ما، لا يعني أنها حقيقة مطلقة يتحتم على الآخرين الاتفاق مع صاحبها فيها، ولا يعني أنها متفقة مع المبادئ؛ ولذا فليس من العدل، ولا من الموضوعية اللائقة بأهل الفكر والثقافة أن تصبح هذه الفكرة منطلقا ومآلا وزاوية واحدة ينظر منها إلى كل الأشياء والأفكار والشخوص والأفعال.

الفكرة الحدية الواحدة القامعة المسيطرة، تقمع صاحبها قبل غيره، وتقيده عن الانطلاق إلى مساحات رحيبة من التفكير، وتجعله مأزوما، ومريضا مرضا حقيقيا دون أن يعي ذلك، ودون أن يشعر به إلا إذا صدق مع نفسه، بل إنها تجعله شتّاماً لعّانا سليط اللسان حانقا على كل من يختلف معه فيها، أو في جزء منها.

ولما كانت الفكرة الواحدة تسيطر وتستعبد تابعها، حتى تتحول إلى قيد يقيد العقل، فإن صاحبها يعود إليها في مقامات لا تستلزمها، ويحشرها في حواراته كلها حشراً، فيصبح مثار سخرية الناس، ومدار أسئلتهم، حول هذا المجنون الذي صار لا يقول ولا يكتب ولا يبحث ولا يقرأ ولا يفكر ولا يحكم ولا يحلل، إلا من خلال فكرته، وكأنها سر التكوين، وأم النظريات، ومحور الفلسفات، على الرغم من أن صحتها نسبية؛ لأنها ليست خاضعة للملاحظة المباشرة، كما هو الحال في العلوم التجريبية، وإنما هي فرض قائم على الحدس والتأمل. وبعد تجربة شخصية طويلة مع سيطرة الفكرة الواحدة على التفكير، أجزم أن أسير الفكرة الواحدة، لا يستطيع – مهما حرص واجتهد- أن يكون موضوعيا، ولا يمكن أن يكون عادلا في أحكامه، فضلا عن أن تكون استنتاجاته سليمة، مما يجعله هو يشك في نتائج تفكيره قبل أن يشكك فيها الآخرون.

وعليه؛ فإن ثقة الناس فيما يصدر عنه تتلاشى مع كثرة تكرار آرائه المبنية على فكرته الواحدة المسيطرة، كما أن إعجابهم بما يستحق الإعجاب منه سينعدم، ظنا منهم أنه لن يقول سوى ما يخدم «سيدته الفكرة»، وهو ظن في محله.

الحياة على مدى اتساع مساحات التفكير فيها، واسعة وممتدة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على استيعاب الأفكار كلها، وليست متوقفة عند فكرة واحدة، فضلا عن أن الفكرة الواحدة ليست حقيقة كونية مطلقة مهما بلغ إيمان صاحبها بها، مما يجعل الانعتاق منها انعتاقا من الأسر، واستثمارا حقيقيا للعقل الذي أمره الخالق ـ جلّ وعلا ـ بالتبصر والتدبر، وهما يعنيان «الانعتاق» بكل ما توحي به هذه اللفظة في جانبها المعنوي، ولا شيء كانعتاق العقل وحريته يمنحان الإنسان فرصة الإضافة إلى المعرفة الإنسانية، إذ لا يمكن لعقل مستعبد مقيد أن يهب البشرية وعياً ولا معرفة.