«وكم علّمته نظم القوافي، فلما قال قافيةً هجاني». إن هذا الشطر من البيت خير وصف لعلاقة السيد جمال بالسعودية، ففي هذه البلاد تعلّم الرماية كل يوم، إلى أن صنع له اسما، وصنعت السعودية منه إعلاميا مفكرا يُشار إليه بالبنان، صنعته سهما كي ترمي به، فإذا به سهمٌ تُرمى به.

والحديث هنا ليس عنه كشخص، إنما عنه كحالة تكررت كثيرا وستستمر دون توقف، فقدر هذه البلاد أن تجد أشد رميا بالحصى تحديدا ممن ذاق منها أطيب الثمر. الحديث هنا عن حالة مقيتة من التلون والارتداد في جميع الاتجاهات، واللعب على كل الحبال.

وغاية المتلون النهائية -وربما الوحيدة- أن يكون قريبا من صاحب القرار، فإن فشل في تحقيق هذه الغاية العظمى -بالنسبة له- فورا تحول إلى عدو شرس، لا هَمّ له إلا النيل من صاحب القرار تشويها وتشكيكا وشكوى، والكثير الكثير من اللطم والنواح.

مَن كان هذا هدفه الوحيد في الحياة، وفشل في تحقيقه، فمن الطبيعي أن يرتد في كل اتجاه، ويرتطم بكل جدار، بحثا عن صاحب قرار آخر ليتقرب منه، وهذا بالضبط ما حدث.

فحين فشل الأستاذ جمال في الحفاظ على مكانته في هذا الوطن، راح وارتطم بالجدار القطري، المرتطم بدوره بالجدار الإيراني، المرتطم هو الآخر بسرداب مظلم تعشش فيه عقيدة متخلفة، ولا توجد وسيلة للتقرب من أصحاب القرار القطري إلا أن يتم استصغار كل أفعال أصحاب القرار السعودي، لا وجود لدرب آخر هنا، والرجل قد سلك نصف الطريق حتى الآن.

وبمناسبة الحديث عن النصف وعالم الأنصاف، الرجل يمكن وصفه باختصار أنه النصف من عدة أشياء، فهو نصف مفكر، نصف محلل، نصف إخونجي، نصف علماني، نصف سلفي، نصف ليبرالي، نصف قومي عروبي، ونصف إسلامي جهادي، حتى أصبح لونه أبيض باهتا، وما عاد له من طعم مميز إلا أن له رائحة نفاذة تُزكِم الأنوف، فمن لا يقف مع وطنه، خصوصا مع هذا الوطن، وتحديدا هذه الأيام، حيث العدو الإيراني صائل ويجر خلفه أذنابا وذيولا إخونجية وقومية عروبية بائسة، من لا يقف مع هذا الوطن بكامله دون تنصيف، فطبيعي أن تلتصق به هذه الرائحة التي تفوح من جسد كل ساقط في مزبلة الحاضر قبل التاريخ.

وبمناسبة الحديث عن مزابل التاريخ، أين هي الأسماء الرنانة التي كان لها -يوما ما- وزنٌ وقيمة؟، بدءًا من «سيد قطب»، مرورا بـ«النفيسي وهنية»، وانتهاءً بـ«السويدان».

أسماء كان لها احترامها وتقديرها، أما اليوم فكل هذه الأسماء ما عاد لها وزن إلا كوزن الذباب والبعوض ومذيعي قناة الجزيرة. اتضح اليوم أن كل هؤلاء القياديين الفطاحلة والمفكرين الجهابذة منذ البدء لم يكونوا أكثر من هباء، وأن بعضهم عملاء، وآخرون منهم خونة، ومعظمهم أغبياء.

إن عقوبة المتحزب والمتعاطف مع حزب ضد الأمة، والمصطف خلف المجوس كذَنَب، أن يلقي به الله في مزبلة الحاضر والتاريخ، وأن تلازمه هذه الرائحة النفاذة التي تُزكم الأنوف، وهذه العقوبة تشمل كل مترنح متلون، يظن أن الوقوف في المنتصف دليل شطارة.

أين يقف خاشقجي اليوم؟! لا أعلم، وأظن أنه هو نفسه لا يعلم، إنما ظني أنه ليس إخوانيا ولا حتى متعاطفا مع الإخوان. كل ما في الأمر أنه وجد أمامه الثوب الملائم للتقرب من أصحاب القرار القطري، فقام بارتدائه، وربما لا يعلم -والأقرب أنه يعلم- أن هذا الثوب صار باليا مهترئا، يُعرّي صاحبه ولا يستر، لكنها الرغبة الملحة في التقرب من أي أصحاب قرار والسلام، والثوب الإخواني لا يفرض على مرتديه أن يكون ضد السعودية، هذه مغالطة، بينما الحقيقة أن الثوب الإخواني يفرض على مرتديه أن يكون ضد كل مسلم لديه رؤية وهدف لإعلاء هذه الأمة.

كل ما في الأمر أن السعودية اليوم تحمل هذا المشروع، وجماعة الإخوان تؤمن بأنه لا يجوز لغيرها أن ينهض بالأمة، هذا كل ما في الأمر.

وها هو السيد جمال، يطل علينا من نافذة غرفته في «سانتا مونيكا»، ليضع اللمسات الأخيرة لمحاضرة سيلقيها عن وطن بائس يتخبط.

أتته الفرصة للنهوض والسلام فحاربها، عن وطن أراد قتل فرصة النهوض فقتلته، عن وطن انتصاراته أقوال، وإنجازاته مجرد وعود، هذه هي العناوين الرئيسية للمحاضرة، والمرء لا يحتاج لذكاء فذّ حتى يستشف أن الحلول أمام هذا الوطن كي يخرج من بؤسه الأبدي أن يعود كل من في هذا الوطن إلى رشدهم، ويبايعون المرشد الأعلى في السراء والضراء، والمنشط والمكره، وفي الشحاذة من قطر، والتصفيق بحرارة لجناب السلطان.

جمال يرى أن هذا الوطن الذي صنعه وقدمه عاند التاريخ، ورفض حق الشعوب المجاورة في حريتها، ويريد من  أبنائه أن يقولوا: ويحنا، قد أخطأنا، يا ليتنا أيدنا ثورات 2011 التي جاءت بالإخوان لمصر، وبالحوثي لليمن، وبملالي الشيطان لسورية.

يا ليتنا أشعلناها ثورة في هذا الوطن لينتهي بنا المطاف ونحن نطوف، نستعطف حلاً ولا حلّ، نستجدي لبن الحمير من إسطنبول بـ25 مليار دولار، ونشحذ عند أمير المؤمنين الشيخ تميم!.. عيب يا جمال.