استبشرت جماهير كثيرة في الداخل اليمني وخارجه بنداء الرئيس اليمني الراحل علي صالح لمؤيديه وأتباعه في حزب المؤتمر الشعبي العام بالخروج إلى الشوارع والثورة لاسترداد الجمهورية اليمنية التي استولى عليها الحوثيون، وقد أجاد اختيار التوقيت في ظل تمادي الحوثيين وعبثهم، وتذمر الشارع اليمني من الغلاء الفاحش للمعيشة وارتفاع معدلات الفقر والوقوف على أطراف المجاعة.. لكنه أخطأ في تقدير قوة وحقد خصومه. وقد كان ذلك الابتهاج الجماهيري من مبدأ أنه يمكن التفاوض مع العدو السياسي، ولا يمكن ذلك مع العدو المذهبي الطائفي.

دفع صالح فاتورة 33 عاما من تجهيل الشعب اليمني لمعاني الديمقراطية والجمهورية والانتماء إلى الأرض والمكان، وليس للأحزاب والأشخاص، وتلاعب بمقدرات وأرواح ومصير أمة، ليُقتل في نهاية المطاف على أيد عميلة لها ثأر قبلي، وليس لها وعي سياسي.

لعب صالح لعبته ونال إحدى نتائجها، وهي النموذج المثالي الذي تفضله عادة ألعاب المخاطرة السياسية، فقد نجح في اختيار توقيت الخروج على خصومه (ربما)، لكنه أخطأ في حساب قوتهم وحقدهم، ودفع حياته ثمنا لتصريحاته الأخيرة المتعجلة التي لم يحسب فيها معدلات نمو قوة خصومه التاريخيين عبر حروبهم الست مع حكومته إبان حكمه، وقد يزول الاستغراب من هزيمة حزبه إذا ما عرفنا أن الاتصالات بينه وبين حزبه كانت مخترقة بامتياز، وهو ما لا تستطيع فعله جماعة الحوثيين وحدها.

تكثر التحليلات الآن حول مقتل صالح الذي وصف فترة حكمه بأنها كانت «رقصا على رؤوس الثعابين» وعلى صدقه في الوصف، إلا أن ذلك ليس مهما الآن، فقد طويت صفحته بعد 38 عاما من حكمه لليمن بشكل رسمي مباشر، وغير رسمي في الأعوام الخمسة الأخيرة قبل مقتله، ودخلنا إلى مرحلة تبعات رحيله بهذه الطريقة المذلة، التي لم يكن يتوقع أكثر المطالبين برأسه أن تكون على هذا النحو البشع.

لكنني أظن أن اغتياله لن يمر على اليمن واليمنيين بالسهولة التي يتوقعها البعض، إذ لا يمكن أن يتخيل اليمن بدون علي صالح، الرجل الذي زرع عبر عقود حكمه تفاصيل شخصيته بين أفراد شريحة عريضة من الشعب اليمني، وحتى أولئك الذين دخلوا معه في عداوات ونزاعات أيضا لا يتصورون اليمن بدونه، فقد كانت للرجل سطوته وكاريزميته أيضا، وقد وضح ذلك من خلال خطاب زعيم العصابة الحوثية عبدالملك الحوثي، الذي ظهر مرتبكا وحذرا جدا في استخدام عباراته وحركاته وبرودة خطابه، وأظن أنه تفاجأ بأمر قتل صالح الذي نفذته جماعته بتعليمات من الواضح أنها أعلى منه ومن طموحاته.

الحرب الأهلية في اليمن قريبة من التفجر على الأرجح، وبشكل عنيف ومخيف أيضا في حال استجمع حزب المؤتمر الشعبي قواه الداخلية، ورتب لمواجهة محتملة مع الحوثيين، لكنني أعتقد أن الحزب بات حبرا على الورق بعد حملة التصفية والاعتقالات التي شنتها جماعة الحوثي على أعضائه والمنتمين إليه من الذين كانوا يعرفون أنهم قيادات بارزة فيه.

وأظن أن ما سيفجر الوضع في اليمن ويجره إلى حرب أهلية طاحنة، هو البحث عن الثأر، وليس البحث عن الجمهورية اليمنية التي أوصى بها صالح قبل رحيله في خطابه الأخير، وحلم بها كل اليمنيين في الداخل والخارج.

لكن السؤال الكبير الذي أبحث له عن إجابة وعطفا على هدوء الداخل اليمني بعد كل ما حدث: هل انكشف الآن أن علي عبدالله صالح لم يكن أكثر من فقاعة كبيرة تخيلها الشعب العربي كما تخيل من قبله الزعماء الدكتاتوريين العرب الذين تهاوت قلاعهم الهشة في غمضة عين؟

هذا التضارب بين التحليل والواقع والمتوقع والهدوء الرهيب للشارع اليمني الذي كان يظهر كمناصر لصالح، يجعلنا على الدوام أمام اللوحة اليمنية المعقدة العتيقة، فلطالما ظل اليمن غامضا ومريبا حتى في أوقات استقراره، فكيف وهو يغلي على نحو ما في الوقت الراهن!.

اليمن السعيد مقبل على الفوضى بعد أن تخلى عن لقب (اليمن السعيد) وأصبح قريبا جدا من أي وقت مضى من حمل صفة (اليمن الإيراني)، وهي الصبغة التي بحثت عنها إيران عن طريق عملائها الحوثيين عبر عقود من العمل الاستخباراتي المكثف داخل اليمن وتوظيف الأموال الإيرانية وغيرها، واختراق المجتمع اليمني عن طريق المذهبية الدينية والتحالفات القبلية القائمة على الرشا، لتشكيل كيانات مسلحة همجية بلا رؤوس سياسية، وسط مجتمع ترتفع فيه معدلات الأمية والجهل والفقر، فهنا تحديدا تستطيع بناء العملاء والغدارين والخونة والمرتزقة، وتدفع بهم إلى الواجهة كممثلين مرعبين متى شئت أن تبث الرعب في محيط مستهدف، والعارفون بتاريخ الحوثيين والطائفيين أينما وجدوا سيعلم أن من لا ذمة له لا عهد له، وهو ما ينطبق تماما على جماعة الحوثيين.

كان اليمن يتحرك بثلاثة رؤوس سياسية، تمثلها الحكومة الشرعية في الخارج، وصالح بحزبه وقوته السياسية، وجماعة المتمردين الحوثيين في الداخل، وبعد تصفية صالح أصبح الحوثيون هم الرأس الأوحد في الداخل، وقد كان صالح ورقة وشعرة الحل السياسي الممكن في اليمن فيما لو نجح في قلب الطاولة على الحوثيين أو نجا من الاغتيال، أما الآن فقد انقطعت تلك الشعرة باغتياله، ولم يبق مطروحا على الطاولة سوى الحل العسكري، وهو الحل العملي الوحيد الذي تفهمه القطعان العميلة لإيران في اليمن وغيرها.