اعتدت أن أتبادل السؤال والإجابات مع ابني عن يومهما بشكل روتيني نهاية كل يوم نلتقي فيه بعد العودة من مدرستهما، حتى أصبحت الإجابات إلى حد ما مكررة ومعتادة، إلا أنني تفاجأت من إجابتهما قبل أسابيع قليلة من الآن حينما علقا بعد وصف متحمس لروعة يومهما الدراسي، حيث قال أحدهما بطريقته: «لو وضعت في اختيار بين الحقيقة واللطف، فاختر اللطف»، وقال الآخر: «الخيال نعمة، إذا كنت لا تحب ما أنت فيه فقط تخيل ما تحب أن تكون عليه»، ثم اتفقا في خلاصة حديث متبادل بينهما أن الحكم على الإنسان من ظاهر شكله أو ما يعانيه من صعوبة حركية أو قدرات خاصة فيه ظلم له وضيق أفق في رؤية أبعاد النفس البشرية العميقة. اكتشفت بعد هذا الحوار القصير والعميق معهما أنهما اختزلا يومهما الدراسي بأكمله في الحديث عن الرحلة المدرسية التي قام بها الصف للسينما ذلك الصباح لمشاهدة فيلم يتحدث عن طفل لديه خلل جيني أدى لولادته بتشوهات عديدة في وجهه جعلته يخضع لاحقا لسبع وعشرين عملية جراحية ليستطيع التنفس والسماع ويبدو شكله مقبولا، وكيف استطاع هذا الطفل في سير أحداث الفيلم التأقلم مع بقية الأطفال في أول عام دراسي يذهب فيه للمدرسة بعد سنوات من العزلة والدراسة المنزلية.

قصة الفيلم المنشورة في رواية شهيرة في أميركا قد قرأها الأطفال في مرحلة دراسية سابقة لم يكن طفلاي فيها، وهذا ما دفعهما لطلب البحث عن الرواية ليقرآها بعد ما شجعتهما معلمة اللغة على هذا، في إنجاز اعترف بعجزي عن تحقيقه في إقناعهما بالمبادرة بطلب كتاب فضلا عن قراءته. عند عودتهما من الرحلة السينمائية وفي حلقة النقاش في الصف أخذ الحديث منحى علميا مع معلمة العلوم تشرح لهم فيه عن الكروموسومات ودور الجينات في صحة الإنسان وتسببها في بعض المتلازمات المرضية. ثم تم تكليف الطلاب بعد تقسيمهم لمجموعات بزيارة ممرضة المدرسة لمعرفة الحالات المرضية للطلاب في مدرستهم التي تسبب فيها خلل جيني ما، وكيف تقدم لهم عناية خاصة لو كانوا بحاجتها، ثم العمل على البحث عن هذا المرض مع فريقهم لأسبوع كمشروع لمادة العلوم.

كان يبدو أن فكرة الذهاب في رحلة مدرسية للسينما لمشاهدة فيلم حديث وأنا أوقع أوراق الموافقة لهما عليها، وأطلع على اسم الفيلم وخطة المعلمة مع تلاميذها في اليوم التالي غريبة لدي في الجدوى التعليمية أو الترفيهية التي سيستفيد منها الأطفال في الصف الثامن خلال تلك الساعات، ولكن الشغف الذي كان يحكيان لي به تفاصيل قصة الفيلم ومدى تأثرهم وأصدقائهم ومعلمتهم بها، ثم النقاش الذي دار بينهم حول هذه الرحلة أكد لي أن صناعة الأفلام ليست ترفيهية بحتة فقط، بل لها أبعاد وآثار أخرى تصل للتعليم لمستها شخصيا قبل أسابيع. استطاعا لغويا التعرف على مصطلحات جديدة عبر الاقتباسات التي دونوها مع أصدقائهم خلال الفيلم، وحرصا على اقتناء كتاب جديد رغم معرفتهم المسبقة لمحتواه، وخاضا نقاشا وشرحا ضمن مجموعة عرضا فيه رأيهما وتحليلهما وربما انتقاداتهما للقصة، ثم اكتسبا معلومات علمية بطريقة مختلفة ومشوقة تعتمد على البحث والمقارنة والرصد، والأهم من هذا كله أن المعايير الإنسانية من التعامل الحسن والصدق والإحسان والشعور بالآخرين ومشاركتهم مشاكلهم، والثقة بالنفس والتوقف عن انتقاد الناس والحكم عليهم والتي عززها في نفسيهما ذلك اليوم الدراسي المختلف تضاعفت بشكل ملحوظ لاحقا في أحاديثهم عن الآخرين «المختلفين» عنهم مهما كان نوع هذا الاختلاف، وحتى في إدراك اختلافهم وتفردهم الخاص عمن حولهما، وتقديرهما لقيمة ما يملكان من صفات وقدرات ولو كانت بسيطة.

لم تكن رحلة طفليّ التوأم مع زملائهم في الصف الثامن في إحدى مدارس أميركا الإعدادية في نهاية نوفمبر المنصرم أمرا يهمني الحديث عنه خارج إطار أموري الشخصية والخاصة لولا القرار التاريخي الأخير الذي أعلن يوم الإثنين الماضي 11 ديسمبر عن السماح بدخول السينما للسعودية، بعد ممانعة لسنوات طويلة بسبب رفض ديني لها اقتنع به الكثير من أفراد المجتمع الذين -في أغلب حياتهم وبشكل يومي- يشاهدون أفلاما ومسلسلات داخل منازلهم، أو يبادرون لمشاهدتها خارج بلدهم عند أول فرصة، وترفض هذه الأغلبية الآن الخروج من دائرة الممانعة والرفض التي رسمها لهم آخرون وتصور قرار دخول السينما للحياة الاجتماعية في السعودية خروجا على تعاليم الإسلام وقيمه.

بعيدا عن تبرير المسلمات؛ نستطيع بالسينما أن نـحقق مكاسب كثيرة على مستوى الأفراد والمجتمع، فهي بالإضافة لأنها حق ترفيهي أصبح متاحا لمن يرغب، ستكون رافدا اقتصاديا في قطاع التوظيف والإنتاج. الكثير من الشباب السعودي سيتجه من صناعة الأفلام عبر فضاء «اليوتيوب» كهواية إلى صناعته بطرق احترافية، بدءا بالمحتوى المحلي والأدوات والإخراج، وستعود الأسماء المهاجرة سينمائيا لإثراء النتاج المحلي. السينما بمحتواها ستعد رافدا تثقيفيا وتوعويا للمجتمع، وستكون قوة ناعمة طالما استخدمتها دول كثير لتمرير أجندتها الفكرية والسياسية والصور الذهنية السائدة لها حول العالم. بوجود السينما اليوم في بلادي قد نشاهد مستقبلا رحلات مدرسية تستثمر فيها موارد الوطن وقدرات شبابها السينمائية في التعليم والتطوير والتوعية.