في السير أن الإمام أحمد بن حنبل حين ضاق بأهل زمنه قال: «بيننا يوم الجنائز»، وهي عبارة عجيبة بالفعل، أن يكون الموت هو تسديدة الحسم الواثقة والنهائية، بينما صاحبها لا يدري عنها شيئا. فما هذا يا أبو بكربلفقيه! يا رجل ما هذا الحب وهذه الأحزان التي ذهبت في الآفاق، يوم ذهابك!

الحضرمي الكبير كان حالة طويلة وممتدة من الرقة والفن وصوت الأبوة، طيلة ثمانية وسبعين عاما، وحتى في موته كان رشيقا وقريبا من الكل، كما هي النفوس التي لا تعوض ولا تتكرر، الجميع شعر أنه معني بشكل شخصي بوفاة هذا الفنان الشامل، والجميع شعر أن من حقه أن يتلقى فيه العزاء، من أقاصي حضرموت، إلى سور جدة، ومن قلب الرياض، إلى ما وراء البحار. لن يكون مفاجئا أن ترثيه فتاة أميركية مثلاً، لم تره يوما، عازفة الكمان الرائعة، جاونا لابيلا، والتي ألقت على روحه السلام بطريقتها، وعزفت يوم وفاته أغنيته الشهيرة «ما علينا، يا حبيبي ما علينا». تذكرون تلك الفرقة الفرنسية التي غنّت «كما الريشة» بكامل بهجتهم، لا بد أنهم أيضا حزانى.

لا أعرف كم مرة كتبت عن بلفقيه، هنا وفي صفحات الإنترنت، لكنني ليلة وفاته لم أجد أحدا أكثر استحقاقا بأن أؤدي له واجب العزاء سوى والدي، اتصلت به وعزيته بالفعل، ولست أنا فقط من فعل هذا، كثيرون جدا قالوا إن الموت قضم قضمة من أرواح آبائهم بموت أبوبكر، فقد أفصحنا يوما، وتعلمنا الكلمات والأصوات الأولى، وهم يصغون إليه، وكبرنا ونحن نرى فيه شجنهم وتعبيرهم العالي.

يوم رحيله تفتحت الرسائل ومحطات البث، من كل صوب، وراحت تطلق صرخاته العجيبة وطربه المدوّي، القدرة التي لا يجيدها سواه (عادك إلا صغير - أشكي لمن منك - غيّار - يا حامل الأثقال - يا سمار - يا سهران.. ما لك فوق فرشك مقر) والسهران الكبير، ارتاح أخيرا، ونام نومة السلام والأبد. أما المرة الأخيرة التي ظهر فيها أبو بكر فقد كانت ليلة اليوم الوطني، جاء بكرسيه المتحرك، وكم كان حزينا أن ترى جبلا كبيرا، وواحدا من سباع الحياة على كرسي متحرك، حيّا الجمهور من قلبه، وغنوا معه قطعته الخالدة: يا بلادي واصلي. والتي كانت من كلماته ولحنه وغنائه وصدقه.

لعل الوصف الأليق والأكثر براعة، هو ما قاله عنه عثمان العمير: «إنه نوع نادر.. جزيرة منفصلة».