نتابع جميعا ما يحدث في منطقتنا، على المستوى الخليجي والشرق الأوسطي، والمشهد الإقليمي يبدو متغيرا بوتيرة متسارعة، ربما يصعب على بعضنا ملاحقتها، فكل صباح جديد يحمل مزيدا من المفاجآت في منطقة باتت الفوضى والاضطرابات جزءا أساسيا من صورتها الحقيقية والنمطية في العالم أجمع.

تحليلات وتوقعات كثيرة حول هذا الملف أو ذاك، ولكن لا أحد يستطيع القطع بأن هذا السيناريو مرجح أو غيره، لسبب بسيط أن ما يحدث الآن هو واقع جديد في المنطقة وليس تكرارا لأزمات سابقة، فكل المعطيات والمسلمات تقف عاجزة عن تقديم الإسناد التحليلي في مشهد إقليمي بالغ الاضطراب وسريع التغير.

وسط كل ما تموج به منطقتنا من أزمات، تبدو أزمة قطر بالفعل «صغيرة جدا جدا» كما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في تصريح له عن هذه الأزمة، وذلك في مقابلة مع وكالة رويترز، على هامش منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار»، إذ عدّ أن «قطر قضية صغيرة جدا جدا جدا».

وردا على هذا التصريح الواقعي في ضوء ما نراه من حولنا بالفعل الآن، انبرت قطر وقتذاك لتؤكد على لسان وزير خارجيتها، الذي قال إنه «بالنسبة لتصريحات دول الحصار لتصغير الأزمة والنظر للأزمة الخليجية كأزمة صغيرة، أولا هي ليست أزمة صغيرة. عندما يحدث خلاف دون أسس فهذا دليل على أن ما حدث ضد قطر إجراء عبثي وتداعياته خطيرة، والآن بدأت تداعياته تظهر على السطح، خصوصا أن هناك تطورات خطيرة في الظروف الإقليمية تبين أن انعكاسات هذه الأزمة على الأمن الجماعي لدول الخليج بدأت تطفو على السطح».

في تصريحات وزير الخارجية القطري ما يشير إلى أن الإصابة بجنون العظمة مست بالفعل العقل السياسي القطري بشكل خطير، وأن الداء أصبح في مرحلة متأخرة، فحين تعدّ قطر أن «انعكاسات هذه الأزمة بدأت تطفو على السطح»، فإنها لا تدرك ما يدور حولها، وأنها لا تجيد قراءة المشهد الإستراتيجي، وتعتقد أن ما يحدث في المنطقة من اضطراب، وما يتجمع في أفقها من «غيوم» تبنئ بما هو آت، هو حصاد الأزمة مع قطر!

اللافت، أن قطر لم تكتف بذلك، بل مضى وزير خارجيتها في التصريح ذاته قائلا «بالنسبة لهم، الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب تأثرت بهذه الأزمة، والجهود الدولية لحل الأزمات الأخرى تأثرت بهذه الأزمة».

كلام مرسل لا يمت إلى الفهم والوعي السياسي والإستراتيجي بأي صلة، فأين أزمة الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب مع المجتمع الدولي بسبب قطر؟ ثم ألا يستطيع وزير خارجية دولة قطر التفرقة بين التقليل من حجم قطر والتقليل من حجم الأزمة معها؟

الغريب، أن حديث ولي العهد السعودي كان واضحا، ولم ينطو على تعقيدات، فسموه قال تحديدا «قطر قضية صغيرة جدا جدا جدا». قاصدا النزاع معها وليست قطر بحد ذاتها، فليست هناك علاقة لحجم قطر بالخلاف معها، ولو كانت القضية بالأحجام والأوزان النسبية والثقل الإستراتيجي للدول ومكانتها الإقليمية والدولية، لكانت قضية قطر مع الدول الأربع قد انتهت بسهولة، لأنه لا مقارنة بين هذه العناصر!

الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب دولٌ مسؤولة وتحترم القانون الدولي والشرعية الدولية، وتتعامل مع قطر باعتبارها دولة، بعيدا عن مسألة الأحجام والأوزان والمساحات وهذه الأمور، لذا كان الحديث عن حجم الأزمة وليس حجم الدولة، وهو ما تأكد بالفعل عقب ذلك من تواتر متسارع للأحداث في المنطقة، لا سيما في التصدي لأيادي إيران ووكلائها العابثين في المنطقة.

اللافت أيضا، أن الأزمة القطرية التي تراجعت ضمن مساحات التغطية الإعلامية في الدول الأربع، بفعل وجود ما هو أهم وأخطر من حيث التداعيات الإستراتيجية، بحيث لاحظ الجميع انحسارا في أنباء أزمة قطر، يبدو أنه موضع استياء الدوحة التي تشعر بالقلق أيضا من انحسار الاهتمام بأزمتها وبات الجميع في حيرة: إذا تم التركيز عليها ومتابعة تطوراتها ضجت قطر بالشكوى من الاستهداف الإعلامي، وإذا جاء ما هو أهم وتراجعت أخبار أزمتها ضجت قطر أيضاً بالشكوى مما تعدّه تجاهلا وتصغيرا للأزمة!

هذا الكلام ليس تحليلا من عندي، بل ورد بالفعل على لسان وزير الخارجية القطري الذي قال «تجاوزهم هذه الأزمة باستصغارها وتجاهلها إعلاميا، والعمل بشكل آخر وطرق مخفية وملتوية، لن يحل ولن يقدم ولن يؤخر، ولن نتجاوز المخالفات التي حدثت ضد شعبنا، فإذا كانت شعوبهم لا تمثل شيئا لهم، فشعبنا يمثل لنا الكثير»!

استمرار قطري رسمي في لغط لا يقدم ولا يؤخر، ما يجعلنا نتساءل: ما موقع الشعوب الخليجية في التصريح؟ وإذا كان شعبكم يمثل لكم الكثير، كما تقول، فلماذا لا تعملون على إيجاد مخرج واقعي من الأزمة، بدلا من استنزاف ثروات هذا الشعب الشقيق المغلوب على أمره!

أيصدق وزير خارجية قطر أن البيانات والإحصاءات الرقمية الدقيقة غائبة عن الشعوب؟ إنه يعيش في الماضي لو كان يصدق ذلك!

هذه الأرقام تقول، إن قطر تستغل الاهتمام الإعلامي المكثف بمتابعة أخبار حملة القضاء على الفساد في المملكة العربية السعودية الشقيقة والموقف السعودي الحازم في الرد على الانتهاكات الحوثية والإيرانية لأمن المملكة الشقيقة، ويقوم حكامها في هذه الأثناء ببيع أصول شركاتها في الخارج لإخفاء خسائر الاقتصاد القطري جراء عناد النظام.

التقارير لم تكتف بذلك بل تتحدث عن انخفاض الاحتياطي القطري من العملة الصعبة في قطر بنسبة 8.6% في سبتمبر الماضي، مقارنة بما كان عليه الحال في الشهر السابق لذلك مباشرة، فضلا عن خسارة مؤشر البورصة القطرية 24% من قيمته خلال العام الحالي، وهو ما يفضح مزاعم المسؤولين القطريين بشأن عدم تضرر اقتصاد البلاد من الأزمة!

بدلا من استمرار دفن الرؤوس في الرمال، أنصح حكام قطر باستغلال انحسار الاهتمام الإعلامي، والعودة إلى صوابهم، وإعادة الاصطفاف مع بقية دول مجلس التعاون.