تقول لي ممرضة بريطانية، إنها عملت في السعودية في الثمانينات، ثم تعيد جلستها بتفاخر: لم تكن وقتها الممرضات يحصلن على دخل جيد في بريطانيا، كما الآن.

في الحقيقة، هن لا يحصلن على راتب جيد فقط، بل على منزل من الحكومة، ودعم لأطفالهن أسبوعيا، كما أن الوجبة لطلاب المدارس في الصف الأول والثاني تتكفل بها المدرسة.

إن كل ذلك جزءٌ من أثر تحسن الاقتصاد البريطاني الذي كان يعد في بداية الثمانينات الرجل الأوروبي المريض. فالدولة كانت مسؤولة عن كل شيء، حتى وكالات السفر. وفي طريقها للبحث عن الرفاهية سقطت بكل ثقلها في أنموذج الدولة الرعوية التي تستنفد طاقتها المسؤوليات، ويشعر البريطانيون أنها يجب أن تنفق عليهم حتى لو لم يعملوا، فكان لا بد أن يأتي وقت تعترف به أنها لا تستطيع، وفي الواقع كان هذا الاعتراف جريئا جدا وحاسما من تاتشر، التي قررت نقل بلادها من الاتكالية والرفاهية الكاذبة إلى ميدان العمل الحقيقي. وكما يقال، أخرجت المعلمين من الجنة، وأتبعتهم بكل موظف كسول يظن أن مرتبه حق له حتى لو لم يعمل، فربطت الوظائف بالأداء، ولم يعد أحد يضمن راتبه آخر الشهر، إلا من يعمل بجد.

ثم فتحت باب الخصخصة على مصراعيه حتى في الجامعات، فلم يعد التعليم الجامعي مجانا إلا للأذكياء.

تقول أستاذتي: إنها كانت من أوائل الطالبات اللواتي تعلّمن بسبب المنح الحكومية للمميزين، ولولا ذلك لما تعلمت، لذا هي تدين لتاتشر بهذا الفضل.

قامت تاتشر كذلك بالحد من سلطة النقابات التي كان قادتها يرفعون أصواتهم بأحاديث عاطفية عن الفقر والحاجة ونقص المساعدات، لاستجلاب النصرة ضد التغيير الذي هز عروشهم، حتى أسموها سارقة الحليب، لأنها أوقفت وجبة الحليب عن المدارس في وقت ما، لتخفيف التزامات ميزانية التعليم، هذه الميزانية التي بعد عدة سنوات -وبسبب إصلاحات تاتشر- ستستطيع تغذية الأطفال بوجبة كاملة للصف الأول والثاني، وفتح حضانات ورياض أطفال، بل لا تدفع الأسرة مستلزمات مكتبية لأطفالها غير مريول المدرسة، ولا حتى قيمة النقل المدرسي.

لقد كانت بريطانيا على حافة الإفلاس، وأنقذها التغيير الحازم الذي يشبه إلى حد ما، ما يحدث في بلادنا الآن، والذي نعيشه منذ بدأ عهد الملك سلمان -حفظه الله- وبدأت معه خطط ولي عهده محمد بن سلمان، في إصلاح اقتصادي كبير لا يمكن أن يمر بسهولة دون كثير من المشقة. ففاتورة التغيير تشمل كمّا هائلا من المعاناة حتى تحقيق أهدافنا، ونحن لا نعيش في جزيرة وحدنا، هناك آلاف بل ملايين المتربصين الذين هزت الإصلاحات عروشهم من الفاسدين أو الطامعين في هذا الوطن العظيم، وكلهم يرتدون ثياب المشفق علينا، وما عهدناهم يشفقون بل يشمتون، لكنها الطريقة الوحيدة لدفع الناس إلى الغضب من إجراءات يتطلبها الإصلاح، وقادرون كسعوديين على تحمّلها، ولقد تحمل أجدادنا ما هو أثقل منها، عندما أنشؤوا ووحّدوا هذه الأرض.