قبل عسر التنظير، ولتتضح فكرة المقال، أسوق هذا المثال: لو أن أحدنا سأل عدداً من المهتمين بالشعر العربي الحديث السؤال الآتي: هل ترى أن الشاعر السوري أدونيس مع موسيقا القصيدة العربية الإيقاعية، أم أنه مع النثيرة أو قصيدة النثر؟ فإن الصورة النمطية المغايرة لواقع فكر أدونيس ستجعل الجواب النمطي الحاضر عند أكثرهم على النحو الآتي: «أدونيس –دون شك- مع قصيدة النثير/النثيرة حتماً؛ لأنه ضد التراث العربي كله، وضد كل تقليدي أصيل، ويدعو إلى الهدم بدعوى التجديد»، فيما الحقيقة أن أدونيس يرى أن نثرية القصيدة وهم من أوهام المثقفين العرب الذين فهموا الحداثة فهماً خاطئاً، وقد أورد رأيه هذا في الفصل الرابع من كتابه عن الشعرية العربية، وهو الفصل الخاص بالشعرية والحداثة، وضمنه أوهام الحداثيين العرب، والمقصود بهذا الوهم -كما يصفه- توهم بعضهم أن تمرد الشاعر على الإيقاع الخليلي، والاعتماد على الكتابة النثرية، هو ما يخلق لقصيدته الحداثة الشعرية، ولذا فإنّه يدحض هذا الوهم بتأكيده على أن هناك نصوصاً إيقاعية أكثر حداثة من القصيدة النثرية، والعكس صحيح كذلك.

بالمثال السابق، يتضح الفارق بين: خطل المعرفة النمطية المغروسة في الأذهان غرسا قسريا، ودقة المعرفة الخالصة المستمدة من المدونات الأصلية لمن نحكم لهم أو عليهم، دون اجتزاءات نصية، ودون تأويلات اعتسافية، تقدّم الهدفَ على الوسيلة الموصلة إليه.

وعليه، فالفكرة النمطية، أو الفكرة الشائعة المغروسة في الأذهان قسراً وعمداً هي أشدّ المغروسات الفكرية عداوة للوعي والمعرفة، وهي أكثرها خطراً على النهوض الحضاري الجمعي؛ لأنها ناجمة عن خطابات هدفها استخدام المعرفة وتطويعها لأهدافها، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة النسبية، وعلى حساب الراجح، وعلى حساب الصحيح، وعلى حساب الأكثر نفعا للجنس البشري.

 تنميط الأفكار ممارسة يومية عند دعاة الخطابات السياسية القائمة على الإيديولوجيا، والهادفة إلى الأدلجة المفضية إلى الأحكام الأحادية الحدّية، وإلى الآراء الصدامية الرافضة للمختلف في الرأي أو الانتماء التياري رفضا مطلقاً لا تمحيص قبله، ولا ندم أو تراجع بعده، ولا شك أن ذلك التنميط يأتي مضاداً للموضوعية والعدالة والإنصاف وتنوير العقول ونهوض المجموعات البشرية، سواء أكانت منتمية إلى دولة وطنية، أم إلى ثقافة ذات سمات معلومة.

وعند الإقرار بما سبق، فلا يمكن أن تكون المعرفة المجردة من الهوى هدفاً لغارسي الأفكار النمطية في العقول، وبخاصة حين تتوارى أهدافٌ بعيدة خلف الفكرة التي يتم الترويج لها بإصرار يصل بأصحابه إلى النجاح في تسميم العقول والرأي العام، وتوجيههما نحو الوجهة التي يرضاها ذوو الأهداف الإستراتيجية النفعية، لا الأهداف المعرفية الخالصة من شوائب السياسة بمعناها العام؛ أي بوصفها فعلا يمارسه كلّ فرد بوعي أو بدونه، وتمارسه المجموعات المنظمة بوعي وتخطيط.

من نماذج التنميط، إصرار بعض الخطابات الفكرية على رسم صورةٍ مغايرة للصورة الأصلية لأسماء بعينها، وهي -على الدوام- صورة مشوهة ثقافياً ودينياً، لينصرف الناس عن نتاج أصحاب هذه الأسماء التي تكون –في الغالب- أسماء ذات قدرة على التأثير الإيجابي في الوعي، وذات قدرة على تأسيس اتجاهات أو مدارس فكرية رائجة، وذات قدرة على قدح الأسئلة، وتحريك الراكد، وزعزعة أركان المسلّمات التي لا حصانة لها سوى أنها تحفظ امتيازات بعض الفئات، وتمنحها حق التفكير بالنيابة.

الأمثلة على هذا الأنموذج من التنميط الذي استوطن العقول آماداً طويلة، أمثلة كثيرة، وليس هذا الأنموذج جديداً أو خاصاً بعصرنا أو مقصوراً على مجتمعنا، فهو موجود في أمثلة كثيرة عبر تاريخ البشرية منذ سقراط، مروراً بالحلاج، والإمام أحمد بن حنبل، ووصولاً إلى آخر المنمّطين تنميطاً تشويهياً هدفه الصرْف عنهم، وسببه الخوف من تأثيرهم، والخشية مما يشكلونه من خطر على المنظومة التي عملت على تنميطهم.

في تنميطاتنا السعودية مثلاً، يصبح ناقد مختلف ومؤثِّر مثل الدكتور عبدالله الغذامي مارقاً خارجاً فويسقاً مفترياً على تراث الأمة، وتصبح جملة وقحة وخادشة وبذيئة مثل: «الله والشيطان وجهان لعملة واحدة»، مقرونة بالدكتور تركي الحمد قرنا اعتسافياً ينتزعها من سياقها النصي انتزاعا لا يعيدها إليه، ولا يردها إلى معناها السياقي. وفي تنميطاتنا السعودية، يصير الشاعر محمد زايد الألمعي مثقفاً يسارياً شيوعياً، برغم أنه من أكثر المؤمنين بعدم واقعية الشيوعية، ومن أكثر المقتنعين بسلبية اليسار وفشله.

هذا الشكل من التنميط، وأعني رسْم صورة نمطية خاطئة عن الأشخاص، ونشْرها في هيئة حقيقة لا تقبل الرد أو النقض أو الجدال، يبدأ بحكم يطلقه فرد مؤثّر من تيار فكري مقابل، وربما كان الذي أطلق الحكم أول العارفين بعدم صحته، إلا أن المصلحتين: الفئوية، والفردية، تفرضان عليه إطلاقه وتعميمه وتكراره والتأكيد عليه والاحتجاج له والإقناع به؛ ليستأثر ذو الحكم التنميطي بالتأثير، وينصرف الناس عن ذوي التأثير المقابل المحتمل، فتبقى العقول تحت السيطرة.

لا يمكن أن يتصالح الفكر النقي بما يحتوي عليه من المعرفة الخالصة، مع التنميط العمدي بأنواعه كلها؛ لأن أصله المغالطة، وأكثر أشكاله مغالطةً هو تنميط الأشخاص الدال على استعداء الذات الأخرى بوصفها ذاتاً مؤثّرة متبصّرة، لا بوصفها فكرة مختلفة، أو رأياً مخالفاً.