في محاضرة ما قال شاب إن الجزيرة العربية قبل النفط كان متوسط أعمار سكانها لايتجاوز 36 سنة، عندها تعجب الحضور، فقال أستاذي وهو يهز رأسه بتعجب 36 سنة في القرن التاسع عشر، هل كانت الجحيم، كيف كانوا يعيشون؟ صمت وأنا أتذكر الواحات تلك التي تحيط بالرياض كما يحيط السوار بالمعصم، أو التي سميت بوادي المياه، حيث كان ابن الدمينة يقابل حبيبته أمامة، فيقول مذكراً لها إن لقاءها لم يكن سهلاً، لكنه كان لأجل عينيها يفعل:

وأنت التي كلفتني دلج السرى

وجون القطا بالجلهين جثوم

أو حيث وقف امرؤ القيس وصاحبه حيث جبل حومل والدخول:

قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقلت كانوا يعيشون بالحب، فالتفتت الرؤوس نحوي متعجبة فغصت في مقعدي، فلست متحدثة جيدة بالعربية فكيف بالإنجليزي، لكنه الحديث عن نجد وهو دائماً مثلها شيق، فقلت موضحة كان الناس يحبون ويملؤهم الحنين حتى من أرغمه الجفاف على الهجرة، تجد أن أحفاده يغنون لتلك الواحات وتلك القرى الصغيرة من النفود إلى الربع الخالي وحتى غياهب الدهناء.

أتساءل الآن أي بلاد هذه لتظل جينات شباب في أعلى إفريقيا هاجر أجدادهم في عام القحط والجوع قبل 200 سنة، تذكر نجد فيغنون قصيدة عيد بن مريبح:

ياعلاوي نجد علك مراديم السحاب

ديرة فيها تربيت يوم اني صغير

ما السر في تلك البلاد التي أحرق الأتراك نخيل واحاتها ورفض أبناؤها السماح لهم بالبقاء فيها حتى لو كلفهم ذلك أودية من الدماء، حتى صار في كل بيت ذكرى مريرة من حملاتهم وبشاعتهم التي لم تكن سوى إلا لأن أهل نجد اختاروا التوحيد ولا شيء غيره.

في الحقيقة أنك تشاهد حولنا وأمامنا أمما تتغنى بماض نضالي وثقافي لا يقارن بما بذله الأجداد للبقاء في هذه الأرض، أحياء ومعمرين ومغيرين وصانعي أمجاد، ومع ذلك لم نتحرك نحن لا بالحديث ولا بالكتابة، وبالطبع لم نصنع فيلما حوله أو مسرحية.

كما أنك تسمع أحياناً البعض يقول عن بلاده نحن خمسة آلاف حضارة وأجداده خرجوا من نجد، لكنك لا تقول ونحن آلاف السنين صبر وشعر وألم وأمل وحضارات منذ إرم ذات العماد، مروراً بثمود ومدائن صالح وجزيرة تاروت والأخدود في نجران، وحتى الصمود والتوحيد في السعودية، لسبب بسيط، لأنك لم تتعلمه في المدرسة، ولم تشاهده في فيلم أو مسرحية، ليس بطريقة تجعلك تشعر أنه يخصك وأنه ماضيك مثل ما يشعر العراقي أن نبوخذ نصر جده، أو يشعر المصري أنه فرعوني، وهذا يعيدني إلى مسألة مهمة نفتقدها كسعوديين في معالجة تاريخنا أدت إليها عوامل عديدة لا مجال لحصرها دفعتنا إلى اعتبار ماضي هذه الأرض رغم الحب لا يخصنا، فلا نفخر به، بل ربما نتجاوزه لعدم الفخر بما أنجزناه بالنفط وعجز عنه من لديه نفط مثلنا، نحن نستحي من الفخر، وهذا ما قللنا في أعين الناس رغم امتلاكنا لأسبابه، فهل نوقظه في داخلنا، ونبديه للعالم كله ليعي العالم من نحن وكم نحب ما كناه وما سنكونه..أتمنى