في رسالة بعثها الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، محمد العيسى، إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست في الولايات المتحدة «سارة بلومفيلد»، ضمن مشاركة الرابطة في ذكرى محرقة الهولوكوست السنوية، تأكيدا على الإقرار بالمحرقة، وأنها عمل إجرامي لا يمت إلى البشرية ولا سماحة الأديان بأي صلة، مع ذكر أن التاريخ لا يعرف الانحياز، ولا يمكن إنكاره مهما حاول البعض تجاهله وتزييفه.

تعد هذه الرسالة التي أرسلت إلى المتحف، والتي نشرت باللغتين العربية والإنجليزية، علامة فارقة في عمل رابطة العالم الإسلامي، المؤسسة غير الحكومية، والتي تمثل الدول الإسلامية في عدد من المنظمات الدولية، وتهدف إلى نشر شؤون إسلامية سنية عدة حول العالم، وتضم تحت جناحها عددا من الهيئات المعتبرة.

تضمنت هذه الرسالة المطولة تأكيد الأمين العام للرابطة على أن الإسلام تعايش مع مختلف الأديان، وأنه زجّ به كمختلف الديانات في أعمال إرهابية لا تمثل رسالة الأديان التي جاء بها الأنبياء، وكانت تدعو إلى السلام والتسامح والإنسانية، هذه الإنسانية التي انتفت مع أعمال محرقة الهولوكوست، وما سببته من أحزان وأذى لكثير من البشر.

هذا التأكيد يأتي ضمن حرص الدول الإسلامية على محاربة الإرهاب والتطرف، وإعادة نشر تعاليم الإسلام المعتدل محليا ودوليا، متخذين في سبيل تحقيق ذلك عدة صور وممارسات، تمثلها مختلف الجهات والجهود الفردية الرسمية وغير الرسمية لمختلف الدول، تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي أو دونها.

وكان قد سبق رسالة محمد العيسى إلى مديرة متحف الهولوكوست التذكاري، والتي تعترف فيها رابطة العالم الإسلامي بمحرقة الهولوكوست، عدة أنشطة من استقبال شخصيات تمثل مؤسسات علمانية ودينية مختلفة، وزيارات خارجية أهمها زيارة العيسى في منتصف نوفمبر الماضي إلى أشهر وأكبر الكاتدرائيات الأوروبية، كاتدرائية نوتردام في باريس، وحديثه مع رئيسها باتريك شويفت حول «القيم» المشتركة، ضمن إطار ملتقى عقدته الرابطة في سويسرا، يدور حول دور اتباع الأديان في تعزيز السلام.

هذا التقارب بين الأديان الذي مثلته الرابطة عمليا، كان أمرا مثلجا للصدور، وهي تعمل به على تحسين صورة الإسلام التي شُوّهت كثيرا لدى الآخر مع مختلف العمليات الإرهابية والتصرفات المتطرفة التي ينتسب فيها من يتبناها للإسلام.

كان لافتا جدا في رسالة العيسى حرصه على التنويه أكثر من مرة أن رابطة العالم الإسلامي، وهي تعترف بهذه المحرقة، فهي تمثل الجانب الإنساني الذي تقوم عليه الأديان والمهتم بالسلام والتصالح وحماية الأرواح البريئة، وأنها تتحدث ككيان مستقل لا يمثل أي طابع سياسي ولا يتبنى أية آراء سياسة لأي جهة.

ونسب في رسالته الصراعات الدينية التي حدثت على مر التاريخ، والتي مزقت البشرية وفرقت الشعوب، إلى أنها ارتُكبت لأسباب سياسية لها مطامعها وغاياتها التي استغلت انقياد البشر وخضوعهم لتعاليم دياناتهم، وانخراطهم الفطري في الدفاع عنها.

ولعل هذا الجانب الذي تضمنته الرسالة من أهم الجوانب التي تعد سابقة في الخطاب الإسلامي المعاصر، وهو التأكيد على عزل الدين عن سياسات الدول والحرص على عدم إقحامه في أي تعاملات إنسانية.

إن التعامل مع الأديان بشكل مستقل دون مطامع سياسية تذكي الصراعات وتزرع الفتن وتؤجج الأنفس، سيكون سببا كبيرا لتقارب الأديان وأتباعها، ومدعاة لانتشار السلام، ومحاربة التطرف والإرهاب اللذين يتناقضان مع الفطر الإنسانية السوية، التي جاءت جميع الرسالات السماوية لتهذيبها وحمايتها مما قد ينتهك بشريتها.

هذا التنويه المتكرر بالتفرقة بين توجهات الأديان الروحية، وبين أعمال السياسية ومتطلباتها الدنيوية، ينبغي أن يأخذ أشكالا أكثر عملية وواقعية في حياة الناس، خاصة في البلدان التي تعاني من العمليات الإرهابية وانتشار التطرف وإقصاء الآخر، بسبب دينه أو مذهبه، وهذا يحدث غالبا إذا عززت الدول هذا العزل بين الروحي والمادي عبر وسائل التعليم والإعلام، وخلال المؤسسات الدينية التي تمثلها كما فعلت رابطة العالم الإسلامي في خطواتها ومبادراتها العملية الأخيرة التي تصب جميعها لتعزيز قيم السلام والمحبة والإنسانية، بعيدا عن براجماتية السياسية ومتطلباتها.