«بوابة»

دائما ما تأسرني البنايات التي تعكس زمنا حضاريا ما، ذا هوية معمارية ثقافية خاصة، أو تكون لها دلالات جمالية مقصودة لذاتها.

تغمرني دهشة الأماكن عندما أكون في القاهرة مارا بشارع عبدالخالق ثروت -مثلا- أو متجولا في ميدان طلعت حرب، وشوارعه الخلفية العتيدة. هناك حيث العمارة المتأثرة بالعمارة الرومانية واليونانية ذات الأعمدة والأسقف العالية، و«البالكونات» بحواجزها المزخرفة البيضاء، والتي راجت في بداية المعمار الفني الحديث، وربما لهذا السبب أحببت مدنا تحتفي بمعمار كهذا، يؤكد بجلاء علاقة الإنسان بالمكان، وتأثيره فيه: بوستن، لندن، روما، طنجة، دمشق...

 «1»

المكون الحضاري يقوم على دعامة غايتين أساسيتين: هما، الغاية «النفعية» للإنسان، والغاية «الجمالية» التي تعكس أحلام ذلك الإنسان، وقدراته الإبداعية، واهتماماته الثقافية والحضارية معا!.

فإذا غابت الغاية الجمالية -مثلا- فإن ذلك يجعل الإنسان رهينا لحاجات نفعية استهلاكية محدودة الأثر والقيمة.

ولعلني أقارب تداعيات ذلك «الغياب» خلال أشكال البناء المعماري في بلادنا. كما سيأتي!

 «2»

مشكلتنا المحلية الأزلية مع الإسكان، و«الهم» المستدام للحصول على عقار العمر، أفضى إلى إيجاد رغبة «وحيدة» مُلحّة، لامتلاك بيت يأمن فيه الإنسان على نفسه وأهله فحسب، من غير اشتراط قيم معمارية وفنية ما، تعكس ثقافة الإنسان وعلاقته بعالمه وبيئته وحضارته!، وهذا ما جعل المكون المعماري لدينا عاجزا عن إثبات هوية حقيقية لثقافة الإنسان، وصياغة «معمار» يعكس إمكانات الفرد الثقافية، ويؤكد علاقات آسرة، يعقدها إنسان الحضارة مع الفن والجمال والإبداع عامة!.

 «3»

الفعل المعماري ليس مجرد «أسمنت وحديد» و»مقاول»، وإنما هو حقل معرفي، يجب أن تكون له أبعاد إنسانية وثقافية وفكرية واجتماعية، تشير إلى أن ثمة إنسانا مرّ من هنا!.

إنسانٌ له ثقافة حضارية وهوية معرفية «ليست الهوية بالمعنى الذي حبسنا ذواتنا في أغلالها الأبدية!». إنسانٌ له أسلوب في العيش يختلف عن إنسان الأماكن الأخرى!

 «4»

ثمة مدن شيدت أعمدتها على تلك الأبعاد الحاسمة التي تزخر بدلالات تاريخية وثقافية للفعل المعماري في مساحاتها، مما يشي بتجليات متنوعة وثرية من الرموز والمعاني والقيم والأعراف والنظم والطقوس.

بيروت -على سبيل المثال- في مشهدنا البنائي العربي تشهد على ذلك المعمار الفني «الخاص» الذي يفصح عن هوية ثقافية إنسانية لإنسان هذه المدينة الغارقة في حمى الجمال، تختلف بها عن هويات المدن الأخرى «حتى داخل إطار المدن اللبنانية ذاتها»، وكنت تحدثت في نثار سابق عن بروز ذلك المعمار المفعم بالدلالات والعلاقات والأطياف التاريخية في مدينة «روما» الإيطالية، التي لكأن كل حجر فيها، تختبئ تحته حكايات لا تنتهي من تاريخ قديم موغل في السحر والتأثير!.

 «5»

ذلك الفقر الموجع لتجليات معمارية فنية في فضاءاتنا المحلية، ربما يكون نتيجة أسباب ثلاثة، كما أرى.

أما أولها، فهو حالة التراكم البنائي الهائل الذي تزامن مع زمن «الطفرة» لدينا، متوافقا -كذلك- مع الإنتاج المعماري الضخم في العالم كله، خلال النصف الأخير من القرن الماضي، مما أفضى إلى «ضياع» هويات كل تلك المباني، بسبب نشأتها معا في لحظة تاريخية واحدة «مستعجلة»!.

أما السبب الثاني، فهو غياب الاهتمامات الجمالية والثقافية في غلس الحاجة إلى بيت يستر ويحمي من صروف الدهر المجهول!، مما حصر أشكال البناء لدينا في إطار فكر جماعي تقليدي واحد!.

وثالث الأسباب التي أفضت إلى مسخ الهوية المعمارية في مبانينا ومنشآتنا، هو الفقر المعرفي والفني للمصممين والمعماريين لدينا، والذين يفتقرون إلى أية مرجعيات معرفية فنية في المعمار وفنونه، كما يفتقرون إلى فهم حقيقي عميق لثقافة المدن وتاريخها!.

 «6»

هل ثمة فرق لدينا في هذه الفترة الزمنية بين بناء يشيد في شمال البلاد، وآخر في جنوبها؟!

هل ثمة فرق بين مدن تقبع في المنتصف الصحراوي وأخرى في الغرب البحري؟

فروقات أخرى بدأت تختفي بين مبان سكنية وأخرى تعليمية أو صحية!

 «7»

هل هناك علاقات حميمية خالصة تربط الفرد لدينا ببيته؟. لماذا هو في «الخارج» دائما؟!

 «8»

ثمة من يعيشون داخل «المعنى»، وآخرون يسكنون «بلا معنى»!